Atwasat

احتشاد الضمائر

نورالدين خليفة النمر الخميس 08 يونيو 2023, 12:08 مساء
نورالدين خليفة النمر

تنطرح أمام المحلل البنيوي مسألة من هو؟ كإشكالية تصنيف للشخصيات في قصص عمر أبوالقاسم الككلي. ونعني بالخصوص ضمير السارد وإسناده، ووضعية المسند إليه في السياق المفتتح للسرد، سواءً في كتابة ما بعد السجن التي تتوخى أسلوب الدلالة الإيحائية أو ما قبل السجن التي تجنح إلى أسلوب الدلالة الذاتية. إذ يُسنَد ضمير السارد غالباً إلى المتكلم عنه بضمير[هو] الغائب، وليس كما هو متوقع في قصص ما قبل السجن، بالإسناد إلى الضمير الحاضر بـ [أنا] المتكلم.

من القصص الذاتية المبكرة نجد قصة (الشيء الذي ينأى) الوحيدة التي أسند عاملها إلى ضمير أنا المتكلم. بينما نجد قصص: (قبلة التشييع واليباس ومافوق اليباس...إلخ) تسند إلى المتكلم عنه بضمير الغائب هو. هذه المفارقة تدفعنا الى إرجاع السرد إلى المؤلف. وأن نقرر بأنه ـ سواء أعلن عن نفسه، أو اختبأ أو انمحى ـ يتصرف بالإشارات التي يغرسها في كتابته القصصية، وهذا الاستنتاج يلزمنا أن نفترض أن بين المتكلم السارد ولغته، أو بالأحرى كتابته، علاقة إشارية تجعل المؤلف مُسنداً إليه كاملاً، وتجعل القصة تعبيراً أدائياً عن هذا الكمال. وهذا، حسب رأي رولان بارت، ما لايستطيع التحليل البنيوي أن يجمع عليه ـ: «فالذي يتكلم في القصة ليس هو الذي يكتب في الواقع، والذي يكتب ليس هو الذي كان يتكلم في السرد».

يختلف الأمر بتواتر الضمائر في أسماء إشارة عدة في قصص الصناعة المحلية المفتتحة لكتابة ما بعد السجن، وهي المجموعة القصصية التي تكتسب قصصها حيوية بالتبديل شبه المتساوي برجحان تقريبي بقصة واحدة بضمير السارد [أنا] المتكلم بالضمير الحاضر على [هو] المتكلم عنه بضمير الغائب. أما في قصص السجنيات فإنه بمعدل قصة واحدة ولتكن (عدم إسقاط الأمتعة) بضمير المتكلم تكون إزاء قصتين هما (اللحم والأسمنت، ورسالة) يسردان بضمير الغائب. بينما قصص المجموعة الرابعة منابت الحنظل ففيها تقريباً يتكرر تبادل الإسناد إلى الضميرين. ونختم التصنيف بما قرأناه متناثراً من قصص على صفحة الكاتب على «فيسبوك» فنجد للمفارقة التوازي بين الإسنادين يتذبذب بنسبة ثلاثة تنحاز لضمير الأنا المتكلم بأسلوب الدلالة الذاتية كما في قصص: (أمل وازدهار، وشهادة عرفانها، والقرار الرطب) لواحد هو ضمير الغائب في قصة (الترتيب الأمثل) .

إذا استبعدنا الإسنادات إلى الضمير الثاني إلى هي في قصة (أمي)، وهو في قصة (أبي) أو إلى المثنى أنا وأنت المخاطب في قصة (الطبيعيون، والقرار الرطب) أو ضميري الجمع نحن وهم في قصة (الاستخصاص)، واكتفينا بعرض تبدل إسناد الضمائر إلى المتكلم الحاضر أنا والمتكلم عنه الغائب هو الذي يتكلم عنه الأنا فإن هذا الوضع يوقعنا في التباس عبر عنه جاك لاكان بقوله متسائلاً «المُسند إليه الذي أتكلمه عندما أتكلم، هل هو نفس ذاك الذي يتكلم؟». فبالعكس من قصص الشيء الذي ينأى يمكن وصف قصص ما بعد السجن في المجموعات الثلاث المذكورة بأنها قصص النضج، فالسارد الذاتي بضمير الحاكي أنا أو بضمير المحكي عنه هو صار ناضجاً واعياً بما يقوله أو يعبر عنه أو يحكيه أو يقصه في سرده. ففي قصص السجنيات السارد هو نفسه السجين الذي يتكلم باسم أناه بالضميرين أنا لإثبات واقعة تاريخية هي: «بعد عصر يوم 2 مارس 1988، جمعو[أنا] في الساحة للاستماع إلى خطاب (...) سيعلن فيه، حسب ما أُبلغـ [أنا] الليلة السابقة، قراره الإفراج عنـ[أنا]، نحن المساجين السياسيين جلس[أنا] في الساحة المعبدة، بعضـ[أنا] يفترش بطانيته، نتابع الخطاب».

نلحظ أن المقتطف الذي أعدنا كتابته بضمير الأنا بدل النحن من القصة، يعبر عن حالة برزخية يسيطر عليها القلق بين الإفراج والإعادة المتوقعة إلى الحبس، وأن ضمير [أنا] السارد توزع في ضمير الجمع [نحن]، فانبثّ القلق محتلاً فضاء عاماً فصار توجساً مفرداً بصيغة الجمع.

إلا أن محكيات السجن وقائعها وأشجانها المعبر عنها في مجموعة السجنيات، وتحتوي بعضها مجموعة «صناعة محلية» ونصوص ترد في شهادات أخرى، يُصاغ ضمير ساردها إضافة لضمير [أنا] الحاضر إلى ضمير [هو] الغائب. ولتوضيح الأمر نستشهد بمقتطف من كتاب «مدخل إلى التحليل البنيوي للقص» حيث يرى المحلل السميولوجي ـ البنيوي رولان بارت «إن الشخصيات في الأساس كائنات ورقية ـ مكتوبة على الورق ـ، وإن الكاتب المادي للقصة، لا يمكن أن يختلط مع ساردها ـ ضميراً متكلماً أو متكلماً عنه ـ في شيء من الأشياء. فإشارات السارد بالضميرين أنا وهو إشارات ملازمة للقصة، ويمكن الوصول إليها، في النتيجة بتحليل إشاري ـ سيميولوجي ـ».

ولتوضيح رأي رولان بارت في فصل الكاتب عن ضميري سارديه الأساسيين وسوارده الآخرين، من الضروي أن نرجع إلى كتابه «درس السيميولجيا» ونورد منه مقتطفاً دالاً من فصل موت المؤلف يقول فيه: «إن اللسانيات قد مكنت عملية تقويض المؤلف بأداة تحليلية ثمينة، وذلك عندما بينت أن عملية القول وإصدار العبارات عملية فارغة في مجموعها وأنها يمكن أن تؤدي دورها على أكمل وجه، دون أن تكون هناك ضرورة لإسنادها إلى أشخاص المتحدثين، فمن الناحية اللسانية، ليس المؤلف إلا ذلك الذي يكتب، مثل أن الأنا ليس إلا ذلك الذي يقول أنا. إن اللغة تعرف «الفاعل» ولا شأن لها بالشخص».

ما لا يجُمع عليه التحليل البنيوي، قد ننفرد به وسيلة تحليل بمعونة العلامية «السميولوجيا» حيث نورد مقطعاً إشارياً من مجموعة «صناعة محلية» لشخص المؤلف العابر بضميره من الأنا المتكلم إلى هو المتكلم عنه. والمقتطف من قصة (الاحتشاد) يعبر عن عزلة السجن حيث تحشد كتابة النوستالجيا أشجان الحنين: «يستلقي الرجل، آخر الليل وحيداً، وكما البرعم، مضموماً على نفسه: يفكر في استلقاءة هادئة مستقيلة من العالم، بحجرته [خارج السجن] الضيقة المزروعة فوضى، ورشفات استمتاع بشاي دافئ عذب، يكون قد أعده بنفسه، به مذاق الليمون».

الشاي إشارية تتعدى بنا من ضمير الأنا المتكلم إلى ضمير هو المتكلم عنه في استشهادين من قصة (أثناء شرب الشاي): «دخل المطبخ. فتح الثلاجة الخاوية وتناول زجاجة الماء ـ يبدأ في تناول الماء بارداً قبل حلول موسم الحرـ ملأ كوبا وتجرّعه على مهل. شرع في إعداد كوب من الشاي». وفي «دعوة على الغداء» نقرأ: «تذوق الضيف الشاي فوجده ناقصا سكرا، كما أنه لم يرض على درجة نضجه. لكنه قرر شربه. أضاف إليه نصف ملعقة سكر وحرّكه ثم تذوقه من جديد. لم يضف إليه السكر مرة أخرى… لم يمسس صاحب المنزل شايه. ارتشف الضيف رشفتين متتاليتين واحتفظ بالكوب بيده ».

إن الشاي كإشارة نحو المؤلف تتسلل عبر الإسناد الضميري لتوحي بدلالات متنوعة ذاتية في قصة الاحتشاد: الدفء والعذوبة المتذكرة بضمير الأنا لغرفة السجين في البيت مقارنة بالوحشة والعزلة في مأواه الاضطراري بالسجن. والذاتية ـ الإيحائية في قصتين «أثناء شرب الشاي» فإعداد السارد بضمير [هو] لكوب من الشاي بمثابة استعداد لمفاجأة عائلية غير سارة ومتوقعة هي ترك الزوجة للبيت وهروبها بطفلها من مصير تطويحه من الشُرفة. أما قصة «دعوة على الغداء» فالشاي الذي أعدته المضيّفة [هي] دون إنضاجه تعبيرٌ عن تسرعها للخروج من مكان جريمة متوقعة يكون ضحيتها غير المتوقع وغير المحتاط الضيف [هو] المدعو على الغداء.