Atwasat

الموت ما وراء الاعتباطي

نورالدين خليفة النمر الأربعاء 31 مايو 2023, 03:17 مساء
نورالدين خليفة النمر

تعمدت في مساهمتي المرتجلة حول قصص مجموعة «صناعة محلية» للكاتب عمر أبوالقاسم الككلي إبان صدور طبعتها الأولى بداية العام 2000 أن تكون قراءتي إجابة عن سؤال كيف يكتب الكاتب؟ وليس ماذا يكتب. ولكي أتملص من قبضة الموضوعاتية استبعدت قراءتي من أن تكون في قصة «أثناء شرب الشاي» التي نال موضوعها ذاك الوقت اهتمام الكتَّاب والقراء.

ما أثارت اهتمامي هي «تعليقات» قصة حوارها قصير ومحفوف بالخطر، عن واقعة قتل اعتباطي تماهى موضوعها مع فنية أسلوب كتابتها. وقد تجاوز بها الككلي موضوعانية الموت قتلاً مفترضاً وانتحاراً متحققاً في «أثناء شرب الشاي» القصة التي شخصته واقعاً ذاتانياً كائناً، وإن كُتب افتراضاً لتنكتب قصة «تعليقات» لتكون واقعة متنبئة بواقع سيكون، يصير فيه القتل الليبي الليبي عاماً بعد عقد وأزيد من كتابة «أثناء شرب الشاي» بانتشار وتداول وسائله: الأسلحة، وأنه في بعض ضروبه عنف لا هدف له إلا القتل الاعتباطي ذاته.

يُستخذم لفظ «اعتباطي» في الفلسفة لوصف المتغيرات والتجارب التي لا يمكن التنبؤ مُسبقاً بنتائجها ويقصد به ما يلي: عدم الانتظام والعشوائية. أما العلوم السلوكية التي اشتغلت على سلوك القتل فإنها اعتبرته تصرفاً اعتباطياً أو إجرائية عشوائية stochastic process وهي العملية التي يتصف سلوكها باللاحتمية non-deterministic بمعنى أن الحالة التالية لبيئة العملية لا تتحدد تماماً بالحالة السابقة لها. فالقتل كحالة تالية في قصة «تعليقات» لا يربطه منطقياً بحالة ركن السيارة في مكان غير مناسب كحالة سابقة وكان الأجدر بالرجل أن يتقبل نصيحة الشاب ولا يعانده لأنها تصب في مصلحته، قبل ملاءمتها للصالح العام، ويتغاضى عن وصفه له بالحصلة والمجنون، فيرد عليه بوصفه فاسداً يجب أن يُؤدب وأن لا يقطع الطريق في اتجاهه فيتلقى طعنته القاتلة غير المحسوبة. وبهذا تتبيّن للقارئ الاعتباطية في قتل قصة «تعليقات» بمجموعة «صناعة محلية».

حيث يظهر فيه عنصر الاعتباطية كاملاً هكذا: «اشتبك الرجل والشاب/ وقبل أن يصل الصديق إليهما لفض اشتباكهما، سمع صرخة وشاهد الرجل يسقط محتضناً سكينا مغروزاً في صدره والشاب يقف ذاهلاً/ قال الرجل بما بقى له من أنفاس: هذا غير معقول!».

وهذا المشهد القاتل الذي تهيمن عليه الاعتباطية يتكرر في نصوص ما نسميه بقصص وقائع القتل في مجموعة «منابت الحنظل» أي قصص أثناء شرب الشاي، وأكوام الريش، ودعوة على الغداء.

والقصص الثلاث هي قصص عن وقائع قتل تتذبدب دوافعها من العشوائية، بل الاعتباطية، إلى غير المعقولية. ففي «أثناء شرب الشاي» تسأل السيدة زوجها: «هل ما شاهدناه (رجل الشقة المقابلة الذي فعلته ربما المفترضة أنه طوح بطفله من الشُرفة) وقع فعلاً هل هذا معقول؟/ للأسف، لقد وقع فعلاً/ هل هذا معقول؟/ ليس كل ما يحدث معقولاً». أما في قصة «دعوة على الغداء» فدعوة المجني عليه للقاتل بأن يتعقل لم تعد تفيده «هذا غير معقول يا خليل!. تعقل أرجوك!. لكن يبدو أن الآخر لم يعد يسمع.

ظل يتقدم، ببطء شديد، مركزاً بصره على جسد العدو» وتنتهي قصة أكوام الريش بسبة اعتباطية يطلقها المجني عليه (المطعون) رداً على كلماته النابية في وجه غير المعقول متجلياً في الطاعن (المجنون) الذي يقضي عليه. «سمع سلاف تلح عليه: دعك منه. واضح أنه مجنون/ فعاد ووزن فكرة الهرب/ لكن الفتى رّد عليها اسكتي يا.../ ثم موجها الكلام له وملوحاً بالسكين: تقدم يا.../ ثارت ثائرة نصر واضطر إلى التقدم، بتردد أكثر منه بحذر. اندفع الآخر نحوه ولم يمهله. صرخ صرخة حادة وهو يفاجأ بالسكين تخترق ضلوعه. ثم أصدر آهة حادة، والسكين تنسحب خارجة، قائلاً وهو يستجمع الهواء ويغالب ألمه: ياولد...»

لا يمكننا الكلام عن جريمة مدبرة أو متقصدة في القصص. فقصة «تعليقات» الشاب الذي جنح إلى قتل الرجل الذي خالف النظام العام «قال من خلال ذهوله: كيف حدث هذا؟/ وسأله صديقه من خلال اضطرابه: ماذا فعلت؟!»، وفي قصة «أثناء شُرب الشاي» تكون واقعة قتل الطفل في القصة مفترضة، ومُتشككا في معقوليتها، ولكنها مقنعة «– تساؤل وجيه!./ أحس بحركة التفاتها نحوه. قال:– إنه ليس تساؤلا عبثيا، كما يبدو في الظاهر./ قالت بخفوت:– ما هو؟./– ذلك الذي صرخ به الرجل الذي قذف بابنه./ صاحت:– ماذا؟.». وقتل الطفل بتطويحه من الشرفة، يتم الاحتياط من تحققه وينقلب فعل القتل المفترض إلى عملية انتحار من قبل الفاعل.

أما قصة «أكوام الريش، فالقاتل فيها يجنح إلى فعل القتل بسبب جنونه فتنتفي فيه الإرادة العاقلة. فالحدث، أي فعل القتل، في القصة اعتباطيته وعشوائيته تتكرر كما في قصة «تعليقات» وكان الأولى بنصر خليفة أن يستمع إلى هاتف داخله يهيب به بالنجاة.

وقد بدا له أن «الموت بسكين صدئة، وبيد مجنون لا يليق بكرامته، أو أن آوان الموت من أي نوع كان لا ينبغي أن يحين الآن».

تقسم الجريمة قانونياً إلى ثلاثة أقسام: المخالفة، أي مخالفة مبدأ النظام العام في قصة «تعليقات» التي استلزمت اعتباطياً قتل الشاب للرجل، والجنحة التي تقوم عليها قصة أكوام الريش، أي تبادل السباب بين المجنون ونصر بن خليفة الذي جنح بالمجنون إلى أن يقتله. والجناية العنصر الأساسي في الجريمة التي تتحقق عناصرها بشكل محدود في قصة «دعوة على الغذاء» فالقتل متحقق بإرادة مسبقة وتتوفر فيه ما يشابه العناصر الجنائية.

يتجاوز الكاتب الككلي بعد قصة «تعليقات» في بعض قصص مجموعته «منابت الحنظل» موضوعانية القتل الجنائية كما يحدث في واقعة قتل لا ترقى إلى جريمة لأنها تتنتفي في سلوكها الإرادة ولا تصير جناية يعاقب عليها القانون بالإعدام أو السجن المؤبد أو المشدد. فواقعة القتل في القصة هي غير كاملة العناصر الجنائية. يمكننا وصفها بالاعتباطية، تنتفي أو تتذبذب المعقولية في دوافعها. فلا ترقى ـ حسب ـ رولان بارت إلى أن تكون موضوعة وجودية في «رواية موت، تجعل من الحياة قدراً».

بأسلوبية قص ما بعد السجن، التي اصطلحنا عليها بالذاتية الإيحائية، الموت قتلاً في قصة «دعوة على الغداء» يكون بمثابة جدل نازل descending ينزل بالعقل من أرفع المثل إلى أدناها بتحليلها وترتيبها في أجناس وأنواع. فنقرأ«انتاب الضيف [المدعو للغداء] شعور طاغ مباغت بعبثية الحياة وألاعيبها فقرر الارتماء في العبث. اعتدل في وقفته رافعاً رأسه، وأغمض عينيه منتظراً الطعنة أو الطعنات، وكأنه كان، منذ زمن بعيد، يتخيلها، يحلم بها، يتمناها، يتوقعها، يترقبها، ينتظرها، يشتهيها».

فالقابلية الذاتية للقتل لدى ضيف قصة «دعوة على الغداء» تتوحد مع الموت انتحاراً ذاتياً في قصة «أثناء شُرب الشاي» بالتسمية الأفلاطونية كجدل صاعد ascending ينقل الفكر من الجزئي إلى الكلي، من المدركات الحسية، إلى المعاني الكلية، إلى التعقل الخالص، إلى المُثل «ارتشف آخر رشفة شاي متبقية. تطلع إلى السماء الربيعية الصافية. فكر أنه لم يعد هناك معنى في أن يتأمل ما حوله. شعر ببعض الارتخاء. نظر إلى غدير الدم الصغير المتجمع على أرضية الشرفة. أغمض عينيه (...) شعر بمزيد من الارتخاء ورغبة في النوم، فحاول أن يتخذ، في كرسيه، وضعاً أكثر ملاءمة. لم يكن يتوقع أن الموت يمكن أن يكون هيناً وسلساً، بل وأنيساً، إلى هذا الحد. الناس تظلم الموت كثيراً.

ها أن كل شيء ينتهي دون ضجيج».
الموت في القصتين جدلاً نازلاً أو صاعداً يتوافق مع ما ذهب إليه جاك دريدا بأن انهمار معنى الموت يحتل في الكتابة كرواية موت فضاءات أبعد من انفراده بالشخص إلى الحد الذي صار فيه «موتاً بصيغة الجمع».