Atwasat

ميثولوجيا العائلة

نورالدين خليفة النمر الأربعاء 24 مايو 2023, 01:33 مساء
نورالدين خليفة النمر

لا نقرأ سيرة في «نقل البقرة» فهي تتلاشى في القصة. فقد توفقت أسلوبية القص في أسطرتها ووسمها بـ«الميثولوجيا العائلية» فالكاتب عمر أبوالقاسم الككلي يضعنا من العنوان مباشرة إزاء ما أطلق عليه رولان بارت «أسطرة اليومي» حيث الأفراد في المجتمع يتواصلون ويتفاعلون باستخدامهم لجملة من الرموز، العلامات، الإشارات والإيماءات وبالتالي ينتجون معاني اجتماعية داخل حيز ومجال معينين».

النقلة الثانية في قصة «نقل البقرة» تضعنا مباشرة في قلب قصة تتحايل على السيرة فتكشف لنا بأسلوبية الكتابة البيئة المعزولة بمفرداتها الريفية التي تنحاز في المزرعة مكان «اليوتوبيا ـ الدستوبيا» كما ترصدها لنا مخيلة الطفل بضمير السارد في هذا المقتطف من القصة: «لكنه أبقى شفتيه مطبقتين كابحا مفردات الجملة المتحفزة (…) وبها كاد أن يؤكد حضوره متسائلاً:ـ آمتى جونا ضيوف، برحة لولا؟!.. ثم يضيف مقرراً:– ما جوناش ضيوف، برحة لولا!. إجرائيا بغرض بنينتها يمكننا تقسيم قصة نقل البقرة في ثنائية: 1 ـ [الميتالوجيا] «ربما لحضور خبرات سابقة سيئة من التدخل في شؤون الكبار» ففي سيرة القصة تتخلق التجربة بحضور خبرات سابقة من زمن معاش لطفل ما أبهظ روحه وكدر طفولته أنه لم يقدر على لجم فضوله بالتدخل في شؤون الكبار فتلجمه «الأبوية» بإجاباتها الحاسمة بل القامعة لفضوله «علاش تنشد؟. كل شيء تنشد عليه!. ما فيك من تقصقيص يا ولدي!!. حاجة ما ليكش فيها منفعة ما تنشدش عليها». هنا الخبرات نابعة من السائد ومن رحم الواقع. ومهمة السرد أن ينقل بأسلوبيته هذا «اليومي» فيتحول من المألوف إلى سياق توثيق ميتولوجي وخطاب مكتوب منفتح على التكهنات، يتحرى بالكتابة الأدبية وبوسائل فنها مجال الحياة اليومية الذي هو في حقيقته مجال شاسع  يشمل كل جوانب المعاش في أبعاده الثقافية في مجتمعيات السلطة الأبوية بما اصطلحنا عليه في مقالات سابقة بـ«إبيسية الأب».
2 ـ [القصة] التي تصير السيرة ميتالوجيا أي مجرد خطوط باهتة «لإحساس غامض بأن في الأمر سراً ما، عليه ألا يفضحه». وهنا السرد يمتد ليشمل تلك التفاصيل الصغيرة: ـ «في الصباح الباكر أنهضه أبوه ووضعه خلفه فوق الحمارة التي سارت بثقليهما متلكئة (لعلها أوقظت من نومها مثله) في الخيوط الأولى من الفجر وكثافة النسيم، كان النعاس يغالبه، لكن حركة الحمارة وحث أبيه لها على الإسراع ووخزات البرد وأصوات الطيور والحشرات وحفيف أوراق الأشجار وخوفه من الوقوع من على ظهر الحمارة، كانت تفلح في هش النعاس عنه. ثم ازدادت خيوط الضوء اتضاحاً ورق الظلام، رويدا رويدا، حتى لم يبق منه سوى غشاء بالغ الرقة لا يحجب شيئاً». لكن رولان بارت يشككنا في ترقيق أوتشفيف حجب وغشاوة هذا المقطع من القصة بأن «الحياة اليومية لا تعبر عن نفسها بطريقة جد مستقيمة وواضحة، إنها مكونة من أفعال بسيطة جد متعددة، إنها مرتجة ومنفجرة، إن لها غموض الظلمة القاتمة». 

في حجاجيات الككلي، قصة سيرة وسيرة قصة، نلحظ مبدأً معيارياً يتكرر غالباً في صورة سؤال متحير يبزغ معبراً عن «خشونة الروح» مجيباً عن سؤال أبيه: «ـ امك شِنِ ادِّير؟. ـ تستغل أمي أحيانا خلو البيت في العشية إلا مني ومن أختي الصغيرة فتلتفت إلى جسدها وتقوم بالاستحمام [لا صنابير ولا تجهيزات خاصة] ـ : ـ تغسل في لحمها. فيسارع هاشا إياي ويصفعني على وجهي متلفتاً نحو أخي محاولاً إخفاء ابتسامة لا إرادية. فيملأني في كل مرة استغراب حول لماذا أضرب رغم أني أقول الحق!».

هذا السؤال نراه ينمو وأسئلة وجودية أخرى مع تضخم الشعور المعتز بالذات. في مواجهة عالم تظلله القسوة وتسوده الفظاظة وتحف به مظاهر الخشونة وشظف المعاملة الموصوفة فيما نقله غ. بشلار عن لسان «قس فاليمون»: دنيا من النادر أن نجد أنفسنا فيها في وضع مألوف، فمع كل خطوة هناك شيء ما يهين ويعذب العقول المعتزة بذاتها». الاعتزاز المبالغ فيه بالذات يتسمى في التحليل النفسي «البارانويا» تخفف وطأته الأسلوبية القصصية بالشعرية كناية واستعارة ومجازاً مرسلاً وبالسردية/ الوصفية حدثاً مبتدئاً، وعقدةً وحلاً. وبالحجاجية جدلاً وتوليداً وترافعاً ودعابة وسخرية وتهكماً. في هذا المقتطف من القصة «أضاف [الأب] وهو يملأ الملعقة بالكسكسي والخضار تهيؤا لرفعها إلى فمه:– خفت عمر يكذبني، لكن ستر ربي اللي سكت وما فضحنيش!/. قالت الأم ناظرة إلى صغيرها، راشية إياه بابتسامة:– كيف عاد؟!. عمر توا بدى يعرف آمتى يتكلم وآمتى يسكت، وما يخصاش بكلام اللي أكبر منه. توا بدى يعرف اللي الواحد مرات ما يقولش الحق!».

في المقتطف من قصة أبي وشتات سيرة «خشونة الروح» يتكلم السارد بلسان الطفل بضميره «أناـ ه»: ـ «فيملأني في كل مرة استغراب حول لماذا أضرب رغم أني أقول الحق!». أما في قصة «نقل البقرة» فالأم تتكلم نيابة عن «أنا ـ ه» طفل ـ ها:ـ  «عمر توا بدى يعرف اللي الواحد مرات ما يقولش الحق!». يمكن إيضاح هذا التبديل في الضمائر من [أنا إلى هو] بما كتبه جاك ألان ميلر مخاطباً المعتز بذاته إلى الحافة القصوى من تضخيمها «بأن ما  يجعل الشعور المبالغ فيه بالذات ـ أنا «البارانويا» بمثابة التوهم الذي يخرج (أو يعاكس دخول) المرء من اللغة. ما يجعلها مصدر تكويننا كذات هو أنك «لمن المستحيل أن تكون شخصاً ما يتم الحديث عنه، أي شخص يجري تداول اسمه في خطاب الآخر الأكبر، دون أن تكون «أنت» لنفس السبب بالذات مذموماً، مشهراً بك وذائع الصيت بنفس الوقت، إنه لمن المستحيل أن تكون شخصاً ما دون مساعدة الشعور المتضخم بذات ـ ك».

إزاء معاكسات «الأبوية» لـ«البَنوية» بأن ترضي فضولها بالأسئلة المنتظر ـ دفعاً للإحراج ـ الإجابة عنها. فتمطرها بإجابات حاسمة تقمعها. تتدخل الكتابة بأسلوبية التعويض لمواساة العقول المعتزة بذاتها مما يهينها ويعذبها. «ولعدة أيام ظل يقلب الحادثة في ذهنه. فرح باكتشافه أن أباه قد خاف منه!. وفرح باكتشافه أنه قد أسدى خدمة لأبيه بصمته. ومن ناحية أخرى، أحس أنه تحرر من الحرج الذي كان يتحرك في نفسه حين لا يقول الحق». ولكن نهاية القصة تظل مفتوحة فاغرة فاها بسؤال يبهظ ضمير السارد بلسان الطفل فتقلق عزاءه وراحته بلغز [نقل البقرة] المُحيّر المعبر بما يلائم «الأبيسية» القامعة للأسئلة:ـ «لكن نقل البقرة، للبقاء أياما بمزرعة الرجل، ظل، لعدة سنوات، لغزاً محيراً».