Atwasat

العلاقات الليبية الأميركية بـيـن مآسي الماضي وطموحات المستقبل (2-2)

ضو المنصوري عون الثلاثاء 04 أبريل 2023, 08:26 مساء
ضو المنصوري عون

المحطة الثالثة
عقم السياسة

وبانتهاء النظام الملكي فى غرة سبتمبر 1969 وسيطرة صغار الضباط على مقاليد الأمور تغيرت معايير العلاقة بين البلدين، وناصب النظام الجديد العداء للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، بما يتناغم مع تنامي المطالب الشعبية للتخلص من الاستعمار الذي سيطر على مقاليد الأمور فى ليبيا منذ استقلالها، وقد اعتبرت الامتيازات التى منحها النظام الملكي لأميركا وبريطانيا عنوانا له وطريقا لإثبات صدق توجهاته.

انطلقت المفاوضات بين البلدين لإجلاء القواعد الأميركية والبريطانية عن ليبيا.
وقد أسفرت المفاوضات فيها عن رحيل جميع الجنود والمعدات العسكرية الأميركية عن ليبيا فى نقلة نوعية للعلاقات بين البلدين، سيكون لها ما بعدها بين الاحتواء والعداء.

يبدو من الوهلة الأولى أن النظام الثوري الجديد فى ليبيا لن يكون حليفا مأمونا للولايات المتحدة الأميركية، وكان ذلك واضحا من خلال أول ظهور لقادته على شاشات التلفاز التى تظهر دون شك العداء لأميركا وبريطانيا، وانحياز قادته إلى قضايا التحرر من النفوذ الغربي على مقدرات الوطن، وقد برهن القادة الجدد على جدية مطالبهم ومشروعيتها من خلال السياسات التى تم اتباعها فى هذا السياق بقرارات عملية برهنت على التوجه العام للنظام الجديد.

لم تكن توجهات القادة الجدد موضع غرابة من كل المتابعين للشأن السياسي، فنزعة التحرر من النفوذ والتخلص من مظاهر السيطرة الاستعمارية تمثل رأي أغلبية شعوب المنطقة العربية، والنظام الجديد ليس بعيدا عن هذه الموجة التحررية السائدة، لكن السياسات التى تم انتهاجها لم تكن ملائمة وبعيدة عن الرؤى الواعية لإدارة السياسات الدولية التى تعتمد التفاهم وتبادل المصالح واحترام سيادة الدول وضمان عدم التدخل فى شئونها، وأن تكون هذه السياسات من الملاءمة التى تضمن قبولها من الطرف الآخر بسلاسة خالية من سوء الظن الذى يكمن بين سطورها.

لم يستطع النظام السابق التعامل بروية مع المستجدات الجديدة التى كانت عصب سياساته الواضحة المعادية للغرب وفتح أبوب التعاون مع العدو التقليدي لهم (روسيا) وكانت خطواته للتسليح من روسيا غير خافية على أحد، بل تجاوز ذلك إلى ممارسة سياسة الانشطار الثوري من خلال دعمه حركات التحرر الوطني فى أنحاء متعددة من العالم فى آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وهو أمر مقلق للغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، وهو ما أثار حفيظة أميركا التي أيقنت بضرورة محاربة هذا النظام والعمل على إسقاطه، وذلك باستخدام الوسائط كافة المتاحة لها.

1- فى فبراير 1973 بدأت حشود عسكرية أميركية قرب المياه الإقليمية الليبية ووجود الأسطول السادس الأميركي قرب الشواطئ الليبية.
2- وفى 13/1/1986 أعلن جورج شولتز، وزير خارجية أميركا، أن إدارة ريغان سوف ترسل مبعوثا أميركيا كبيرا فى زيارة لأوروبا، فى محاولة لحث الحكومات الأوروبية على فرض العقوبات الاقتصادية ضد ليبيا بالمفهوم الدقيق لكلمة (العقوبات)، والمبعوث الأميركي هو الجنرال فيرنون وولترس، سفيرها لدى الأمم المتحدة وصديق إسرائيل فى إدارة ريغان.
3- فى يوم 26/1/1986 واصلت قطع البحرية الأميركية التابعة للأسطول السادس الأميركي وسفن حربية أميركية أخرى مناوراتها العسكرية البحرية والجوية قبالة الساحل الليبي فى البحر المتوسط لليوم الخامس على التوالي، فقد بدأت هذه المناورات الاستفزازية فى منتصف ليلة الجمعة 21/1/1986 حتى يوم 24/1/1986.
4- وفى يوم 8/2/1986 أعلنت وزارة الحرب الأميركية (البنتاغون) عن عودة مناوراتها العسكرية التى تشارك فيها القوات البحرية والجوية أمام الشواطئ العربية الليبية، وقد شاركت أيضا حاملات الطائرات الأميركية، مثل (كوال سي وساراتوجا).
5- وابتداء من 13/4/1986 توالى وصول الطائرات الحربية الأميركية إلى قاعدة سيغونيلا العسكرية في الجنوب الإيطالي، كما أن ميناء (أكزيفونو) فى جزيرة صقلية قد شهد تجمعا كبيرا للسفن الحربية الأميركية، كما أن الولايات المتحدة نقلت المزيد من الطائرات والعتاد العسكري إلى قواعدها فى بريطانيا، استعدادا لشن هجوم عدواني على ليبيا فى أي وقت.
وكشفت جريدة «صنداي تايمز» البريطانية بتاريخ 13/4/1986 أن وزارة الحرب الأميركية قامت بنقل عشر طائرات من طراز «سي» التى تقوم بتزويد الطائرات بالوقود فى الجو إلى بريطانيا «إف- 111» القاذفة المقاتلة فى قيامها بعدوان مقترب على ليبيا.
6- كان يوم 15/4/1986 أبرز لحظات الصراع والتوتر بين الولايات المتحدة وليبيا، ففي ليلة هذا اليوم قامت القوات الأميركية بعدوان مفاجئ على منزل العقيد القذافي، وقد أصيب عدد من عائلته بجروح، وواصل الطيران الأميركي منذ الصباح قصفه المركز بالطائرات على الأحياء السكنية والمدنية بمدينة طرابلس، وقد نتج عن القصف سقوط العشرات من المواطنين المدنيين، وقد تم إسقاط ثلاث طائرات أمريكية وفقا للبيانات الليبية.
(كان الاتحاد السوفيتي قد سحب قواته من أمام الشواطئ الليبية قبل العدوان بساعات فى تواطؤ واضح مع الولايات المتحدة).
لم يكتف النظام السابق بهذه التوجهات المقلقة لأميركا، بل أظهرت المخابرات الإسرائيلية أن النظام الليبي يسعى للتسليح النووي بالتعاون مع أبو القنبلة النووية الباكستانية عبدالقادر خان، وهو ما تأكدت أميركا منه وتم تفكيكه وتسليمه للولايات المتحدة الأميركية فى أول رضوخ من النظام الثوري الجديد لمطالب القوة الأكبر فى العالم، وهو ما يعتبر دليلا إضافيا على أن نظام القذافي يعد مصدرا للقلق، وقد تجلى ذلك باتهام ليبيا بتفجير ملهى برلين، وحادثة الشرطية البريطانية أمام السفارة الليبية فى لندن وحادثة تفجير طائرة بانام فوق لوكربي، والتى رضخ فيها نظام معمر القدافي للإملاءات الأميركية، وقام بتسليم المتهمين إلى القضاء الاسكتلندي لمحاكمتهم، وأرغمت ليبيا على إجراء تسوية لهذا الملف، وفقا للشروط الأميركية، بعد دفع التعويض الجائر عن ضحايا لوكربي، رغم هشاشة الأدلة على مسئولية ليبيا عن هذه الواقعة، ووقع الطرفان الأميركي والليبي على اتفاق تسوية بتاريخ 4/8/2008، والتأكيد على ما جاء بها بموجب الأمر الرئاسي من الرئيس (جورج بوش رقم 13477 الصادر فى 31/10/2008 لطي هذا الملف)، إلا أن الولايات المتحدة عادت من جديد لفتح الملف وإرغام ليبيا على تسليم مواطنين ليبيين لمحاكمتهم على الوقائع ذاتها، وكان أولهم المواطن (أبوعجيلة مسعود) الذى يحاكم الآن فى أميركا بالمخالفة لبنود الاتفاق المبرم بين البلدين، وهو ما يؤكد أن الولايات المتحدة لم تتخل عن حلمها القديم فى السيطرة على الشواطئ الليبية الذى تأخر مدة تزيد على 200 سنة، وما هي إلا مقدمات لتنفيذ سياسة السيطرة على ليبيا وتحقيق الحلم الذى تأخر لمدة تزيد على قرنين، بوسائل مختلفة عن السابق تتخذ من السياسة عنوانا لها.

المحطة الرابعة
لم تكن ثورة 17 فبراير 2011 إلا مزيجا بين معاناة الشعب على مدى 42 سنة من التجارب السياسية العقيمة التى تعتمد على كبت الحريات وغياب سيادة القانون والمغالاة فى كتم جميع الأصوات المنادية بالحرية أو الديمقراطية فى الداخل والخارج، ولعل مذبحة سجناء أبوسليم واغتيال المعارضين السياسيين فى الخارج وتكميم الأفواه التى تحلم بالتطور الحياتي أسوة ببقية دول العالم وسط أجواء من الرعب السياسي وصوت القائد الواحد الذي لا يشاركه فى الحكم أحد، رغم الإمكانيات الهائلة للدولة الليبية من النفط والغاز، التى تم صرفها فى غير موضعها فى الداخل والخارج، مما حرم الليبيين من التنمية والتطوير والاندماج مع الدول التى تتطور كل يوم دون إدراك أن البشرية تتطور فى جميع المتطلبات الحياتية القائمة على زرع مناخ الحرية والديمقراطية. ووفق وثائق دستورية حاكمة تضمن التداول السلمي على السلطة، وحماية حقوق الإنسان وسيادة القانون والتوزيع العادل للتنمية البشرية، خاصة أن الفترات الأخيرة من حكم النظام السابق قد اتسمت باتساع دائرة الفساد المالي، والإداري، والسياسي وهو ما أضحى رافدا جوهريا للتفكير فى أي تغيير للنظام السياسي، وإن كان القمع الفاضح لأصحاب الرأي أصبح عنوانا للتغيير الذي تقوده فى محدداته العامة قوى دولية زرعت نفوذها فى أركان النظام من المتعاونين معها وأفرغت المؤيدين للنظام السابق من الوسائل كافة التى تكفل لهم قيادة مقاومة ناجعة تمتزج فيها القوة مع السياسة، يضاف إلى ذلك حجم التحشيد الدولي المؤيد للإطاحة بالسلطة القائمة آنذاك بموجب قرارات من مجلس الأمن الدولي التى بدأت بفرض حظر جوي على الأجواء الليبية، وكذلك تدريب وإمداد ثوار 17 فبراير 2011 باحتياجاتهم من السلاح والأدوات اللوجستية التى تكفل لهم الرصد والتواصل مع الأجنحة السياسية والعسكرية من قوات الدول المتدخلة فى الصراع على الأراضي الليبية لإسقاط النظام.

وقد أثبت ثوار 17 فبراير شجاعة نادرة لتحقيق أهداف الثورة، ولم يثنهم على ذلك قوة النظام السابق وأسلحته المدمرة التى أسهم التدخل الدولي فى الحد من قدرتها التدميرية، وهو ما خلق مناخا ملائما للولايات المتحدة الأميركية بأن تجعل من ثورة 17 فبراير 2011 عنوانا لها يتحقق من خلالها الحلم الأميركي منذ 1801 وما بعدها، الذى يهدف إلى تأمين الوجود الأميركي فى الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، الذى تستحوذ فيه ليبيا على ما يقارب من ألفي كيلومتر، يضاف إلى ذلك أن ليبيا العذراء تعد دولة بكر لم تشهد تنمية حقيقية على مدى ما يقارب نصف القرن.

وبالتالي بات واضحا أن الولايات المتحدة وجدت ضالتها فى هذا التغيير السياسي الذى أنهي النظام السابق الذي عملت عليه جميع أجهزتها الاستخبارية والعسكرية من أجل تهيئة الظروف اللازمة للتغيير تحت عباءة المجتمع الدولي من خلال الالتحاف بقرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي لتحقيق أطماعها الدفينة التى تناغمت مع التدخل الدولي فى ليبيا الذي أدى إلى تدمير البنية التحتية المحتشمة على مدى نصف القرن، كذلك إنهاء الدولة من خلال تدمير مكوناتها الأمنية والعسكرية، وهي نتائج محسوبة لدى الولايات المتحدة وحلفائها، وقد تحقق من خلالها إعطاء الولايات المتحدة موقعا ودورا فى محيطها الإقليمي من خلال وجودها العسكري واللوجستي على الأراضي الليبية.

ورغم أهمية الاستقرار السياسي لليبيا، فإن جميع الدول المتدخلة فى الشأن الليبي لم تكف عن انتهاج جميع الوسائل الكفيلة باستمرار حالة الفوضى والتسلح والانقسام السياسي تحت غطاء المندوبين الدوليين الذين تقاطروا على ليبيا على مدى اثنتى عشرة سنة وعرقلة أي بادرة للحل السياسي بين الليبيين، وكان أهمهم المرتبطون بالسياسات الأميركية، أو الذين تفرزهم السفارة الأميركية فى ليبيا، وعلى رأسهم إستيفاني وليامز التى استخدمت جميع البدائل كي لا يحقق الشعب الليبي إرادته ويمارس حقه الدستوري فى الاستفتاء على مشروع الدستور الذى تمت صياغته بعد انتخاب هيئة صياغة الدستور بموجب القانون رقم (17 لسنة 2013) ومباشرة عملها فى 14/4/2014 واستقبالها لأكثر من ستة عشر ألف مشاركة من مكونات المجتمع المدني والمكونات الثقافية واللغوية ونجاحها فى نسج أهم توافق دستوري بمعونة العديد من المنظمات الدولية، على رأسها «منظمة المحامين الأميركية» و«DRI الألمانية» و«صناع السلام» بالتعاون مع الجامعة الأوروبية وتمكنها من التصديق على مشروع الدستور فى 29/7/2017 بنسبة تتجاوز 97% من الحاضرين جلسة التصويت (44) عضوا امتنع صوت واحد عن التصديق، وصوت لصالح مشروع الدستور، و(43) صوتا تجاوزا للمطلوب دستوريا، و(41) صوتا من (58) العدد الكلي لأعضاء الهيئة، وهو ما لم تستسيغه بعثة الأمم المتحدة والمندوبون الأميركيون الذين عملوا على خلق بدائل عن الشعب الليبي بحجة عدم ملاءمة مضمونه لأنه تضمن شروطا لتولي الرئاسة لم ترق لهم دون عرضه على الاستفتاء الشعبي.

الأمر الذي أبقي ليبيا إلى اليوم فى حالة انقسام، مما أدى إلى تفشى الفساد والفوضى وانتهاك حقوق الإنسان، وهو أمر طبيعي لما أدت إليه السياسات الأميركية فى ليبيا عندما غضت السياسات الأميركية الطرف عن حق الشعب الليبي فى تحقيق الانتقال الديمقراطي عن طريق صندوق الاقتراع، وليس بناء على نزوات المندوبين أو وشايات المغامرين السياسيين الذين استمروا يمارسون أعمالهم إلى اليوم فى مجلس النواب والدولة بمباركة دولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

إن الولايات المتحدة الأميركية تحديداً وما يليها من متدخلين فى الشأن الليبي والدول التى تدور فى فلكها تحت مسميات مختلفة فى حاجة إلى إعادة النظر فى سياساتهم حول ليبيا والعمل على إرساء الديمقراطية وتمكين الشعب الليبي من تحقيق إرادته والعمل على إرساء علاقات استراتيجية مع هذا البلد الصاعد، خدمة للأمن والسلم الدوليين وتحقيقا لتعاون بناء يقوم على إرساء الأمن والسلم والتعاون المشترك ومحاربة الإرهاب واحترام سيادة الدول على حدودها الإقليمية.