Atwasat

حرب الكذب

نور الدين السيد الثلثي الأربعاء 29 مارس 2023, 11:15 صباحا
نور الدين السيد الثلثي

غزا المغول بقيادة هولاكو بغداد سنة 1258ميلادية، قتلوا مئات الآلاف، وذبحوا المستعصم بالله آخر خلفاء العباسيين. أحرقوا بيت الحكمة بما احتواه من نفائس الآداب والعلوم والترجمات، ودمروا المركز الشرقي للحضارة الإسلامية. نعود بالذاكرة إلى هولاكو حينما نستذكر غزوا آخر لبغداد مضت عليه عشرون عاما وحسب، نستجلي سياقه وأسبابه.

عندما يتعذر الجهر بالأسباب الحقيقية لعمل ما يلجأ الفاعل إلى الكذب، وهذا ما حدث عند غزو الولايات المتحدة -ومعها بريطانيا- العراق في 20 مارس سنة 2003. تم حينئذ ادّعاء امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، واختُـلِقت «الأدلة» لإثبات صحة الادعاء، لعل أشهرها وأسوأها سمعة كان عرض وزير الخارجية الأميركي كولن باول في مجلس الأمن في فبراير 2003. وكذلك كان حال «ملف العراق»The Iraq Dossier الصادر عن الحكومة البريطانية، تمهيدا للغزو وتبريرا له.

مركزية الكذب في تبرير الحرب جعلت لاستخبارات الدولتين الغازيتين دورا مركزيا طبيعيا في سياسات دولها، حتى إنه يُنقل عن توني بلير قوله لرئيس مخابراته الخارجية في يناير 2003: «مستقبلي بين يديك».

وقد كان لمعارضين عراقيين خارج العراق دور آخر مهم في تدبيج التقارير والمعلومات المكونة لجانبٍ مهم من «أدلة» وجود تلك الأسلحة والدفع باتجاه الغزو سبيلا للإطاحة بالنظام. أما أنظمة الحكم العربية فلم تكن لتعترض، بل كانت لها درجات متفاوتة من الدعم، الذي اتضح أكثر شيء في استخدام القواعد الأميركية على أراضيها منطلقا للغارات الجوية والصاروخية وأرتال القوات البرية.

كانت الولايات المتحدة، وقد سقط الاتحاد السوفييتي، في أوج تفرّدها بالهيمنة كقوة عالمية عظمي؛ «القيادة بيدها حيثما كانت لها مصلحة حتى لو لم يتبعها أحد»، كما قال كولن باول. في سنة 2003 قدّرت إدارة جورج بوش الجديدة أن مصلحةً لأميركا تكمن في غزو العراق للإطاحة بنظام الحكم فيه ونزع سلاحه، وتدميره كما اتضح فيما بعد.

أما بريطانيا فقد ربطت سياستها نحو العراق بما تقرره الإدارة الأميركية منذ البداية، ما عبّر عنه توني بلير في رسالة منه إلى بوش في يوليو 2002 بقوله له: «سأكون معك مهما كان».

تراوحت المبررات المعلنة بين نزع أسلحة الدمار الشامل والعلاقة بتنظيم القاعدة، واستقرت على ادّعاء ملكية العراق لأسلحة دمار شامل من دون دليل مقنع لأحد.

وكان على الإعلام مسؤولية كبرى في تسويق حرب مؤسسة على الكذب ويعوزها المبرّر الأخلاقي. اختفت الموضوعية والنقد من تغطية وتحليلات «بي بي سي» و«نيويورك تايمز»، وصولاً إلى صحف «روبرت ميردوخ» حول العالم بطبيعة الحال. اختفت الفوارق بين إعلامٍ جادٍّ وآخر شعبوي، وانزوى اليسار والليبرالية أمام الترويج للحرب وأصوات المطبّلين لها.

احتلت الولايات المتحدة العراق ودمرت مؤسساته المدنية والعسكرية وسرّحت جنوده، في عدوان أدى إلى مقتل نصف مليون عراقي، وأكثر من ذلك بكثير في تقديراتٍ أخرى. عينت للعراق حاكما أميركيا ديمقراطيا حلّ محلّ الحاكم العراقي المستبد، قسّمته بين عرب وكرد وسنّة وشيعة، وارتكبت من أنواع التعذيب ما سيظل سجن أبوغريب شاهدا عليه ما ذكر التاريخ غزوهم للعراق.

افتضحت بعد الغزو كذبة أسلحة الدمار الشامل، فتحوّل هدف الحرب إلى الإطاحة بنظام حكم مستبد وإحلال آخر ديمقراطي محله، وهو ما ظل تعبيرا عن الهدف من التغييرات التالية في المنطقة العربية التي بدأ التبشير بها عبر ما أسمته وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بالفوضى الخلاقة.

عندما يقدّم المسؤولون في دولتي الغزو تفسيراً لـ«الدمار الشامل» الذي نتج عن احتلالهما العراق، يقولون إنه قد نتج عن «عدم التخطيط لليوم التالي».

نعرف مَن هم، ونعرف لِـكَم من أيام المستقبل يخططون، لذلك لن يكون منطقيا الاستسلام لكذبة عدم التخطيط لليوم التالي، واستبعادُ أن ما حصل في اليوم التالي كان ناتجَ التخطيط، عن عمد أو غير عمد وليس لغيابه، وأن الكاسب الأكبر من دمار العراق كانت إسرائيل، وليس فقط إيران، وأن الخاسر الأكبر كان شعب العراق والجناح الشرقي للوطن العربي.

الحرب على العراق سنة 2003 كانت حرب الكذب. الجميع كانوا يكذبون. كان مطلوبا من العراق أن يتخلّص من أسلحة لم يكن يملكها، وكان مطلوبا من لجان التفتيش إثبات وجود أسلحة لم تكن موجودة، وأنظمة العرب كانت تكذب عندما تظاهرت بأن لها مواقف خارج إطار تبعيتها للمعتدي وخوفِها مما يحمله لها اليوم التالي على يده.