Atwasat

الأنا الرهينة

رافد علي 5 أيام
رافد علي

نحن شعب أو كيان مركب بالعكس. استيعاب وإدراك المنطق ﻻ يحتاج مناظرات، لكننا ﻻ نتوقف عن التذكير بعقلنة الأمور أو الأشياء، لأن عنان الأنا المأزومة بذاتها هي السائدة الآن، وبكل مسمياتها؛ أنا ليبية مرتبكة جداً، وبوادرها سوء الظن في التعاطي مع الآخر الشريك في الأرض، خلافاً لأصل حسن النية المعروف. أنا صدامية جداً، ومستعدة له دون ممارسة المكاشفة مع الآخر، لأن الظن، خصوصاً الظن السلبي، بحياتنا هو السائد، والمسيطر على نمطية يومنا واجتماعياته، بسبب أن تاريخنا كبلد فقير وقبلي، عشنا فيه في مساحات متباعدة بسبب الامتداد الجغرافي الكبير، فعشنا كمجتمع منغلق على ذاته، ولم تسعفه الطفرة النفطية وما صاحبها من تطور عصري على تجاوز ذاتيته المقفلة على نفسها. وما فشل ليبيا حتى التو في خلق حل لأزمتها من واقع ثقافتها وتاريخها وحاضرها إلا دليلا صريحا على فداحة العطب.

نحن فعلاً بمأزق حقيقي على مستوى الإنسان تركيباً وكشعب تفكيراً، وما تجليات الجهوية والقبلية والمناطقية إلا إشارة شديدة الوضوح ترسخ الطرح التركيبي المعلول لمجتمعنا الناشئ حديثاً في «دولة» منتصف القرن الماضي حتى الساعة، رغم أن دلالات مصطلح المجتمع المركب عند صاحبه بول باسكون بحقبة سبعينيات القرن الماضي يقبل على مضض بفكرة التعايش المجتمعي فقط لأجل منهجية صرفة حين شروعه في دراسته كعالم اجتماع، بسبب أنه يصعب بناء نموذج نظري لأي مجتمع دون العودة للتاريخ، وتاريخنا الليبي يشهد بأن الديناميكيات الداخلية التي تحركه حتى الآن هي الأنا الحبيسة في ذاتها ومكانها وجهتها، وأضحت الآن أنا رهينة خطابات عامة تارة وسياسية في تارات أخرى تعزز تقوقعها على نفسها بعيداً عن مفهوم وطن ومواطنة وسيادة وطنية.

قطيعة الحداثة أدت إلى إفراغ العالم من الفتنة والسحر، أو ربما نزعت عنه أغلال الدهشة والبهجة والأسرار كما يقول ماكس فيبر في مصطلحه الشهير: Le désenchantement du monde، إلا أن قطيعتنا الحداثية الحقيقية لم تحدث بعد، باعتبار أن أطر تفكيرنا لا تزال جامدة، ولم تتحرر ذواتنا من رواسبها المشوشة التي تحول كثيراً دون ركب عصرها وزمنها حتى في صورة رسم خارطة وطنية لبناء دولة حديثة وعصرية تكون حية في الوجدان، وليست هوية في أوراق رسمية تُشهر حالة انتماء صوري ومؤقت، بحكم اللحظة المعاشة اللازم فيها إثبات هوية داخل نطاق آمن وعلم لدولة، وهي اللحظة ذاتها التي تتراجع فيها القبيلة والجهة بحكم سلطة إدارة الدولة، وتتلاشى بالتالي ظاهرة دول المدن.

الفتنة، كالقبلية والجهوية والتهميش، كانت موجودة بيننا أساساً، لأننا لم نعالج قضايانا الليبية داخلياً بشكل جيد مبدئياً، ودون أي استبعاد يقيني بأن الآخر، بات الآن، يمارس حالة الاستثمار بهذه المشكلات ضمن لعبة خلط الأوراق بحكم واقع الصراع الإقليمي استراتيجياً بليبيا بين متمسك بالشرعية، وآخر متحجج بالاعتراف الدولي، لكن الأساس الإشكالي والأهم يكمن في صميم الشخصية الليبية، عموماً، التي تبدو اليوم غير واعية لنفسها بيقظة لافتة وبارزة على الصعيد العام، ولا تبدو، كذلك، ناضجة لإدراك أن قدرها الجغرافي يضعها أمام أخطار الديمغرافيا كتحديات حقيقية تتربص بأصغر تجمع سكاني- شعب- بالساحل والصحراء، كما وجب أن لا ننسى أن حالة الإحساس بالفوقية من قِبل البعض بيننا على أساس جهوي أو قبلي كانت دائماً موجودة وبارزة، وقد طفحت على السطح بمجرد اندلاع فبراير، لتكشف عن حقائق ليبية لا نزال نتغاضى عنها بحكم المجاملات أو الرقابة الذاتية.

قضيتنا كـ «وطن»، قضية عويصة، فحالة عدم الإيمان بالعيش المشترك ضمن مؤسسة عادلة ومتجانسة بحكم راهنية العصر المفتوح اليوم؛ تظل عقبة نفسية بارزة تقوض الوعي بحقيقة واقعنا كشعب أو أمة إذ تتصاعد نبرة «عنصرية التفوق العرقي» التي راجت بيوم الزي الوطني، وكأن إشكال الأقليات بليبيا إشكال عنصري مؤدلج وممنهح، وليس قضية أخلاق وعدالة وانعدام حكم رشيد في كيان حقيقي لوطن يفك ارتباطه التاريخي مع المغالبة والسيطرة والإقصاء والتهميش.

إصلاح ليبيا الحقيقي ينطلق من مكاشفات صريحة على مستوى الذات وعلى نطاق الهوية الوطنية. أما البعد السياسي ببلادنا، فيظل خاوياً جداً نظراً لتربع حالة إفلاس سياسي ذريع، فاشل في إنقاذ الوطن بحنكة ونجاعة. وضمن برنامج عمل وطني حقيقي وطموح يكفل استعادة وطن مختطف ومهدد.