Atwasat

محنةٌ لا أزمة.. الفساد رُكنها المتين

نور الدين السيد الثلثي الثلاثاء 31 يناير 2023, 02:51 مساء
نور الدين السيد الثلثي

«ولا تَعْـثَوْا في الأَرْضِ مُفْسِدِين». البقرة، الآية 60

ليبيا ليست في أزمة تبحث عن حل، بل في محنة تهدّد وحدتها ووجودها؛ من جوانبها قيادة الأجنبي لما يسمّى «الأزمة الليبية»، وانتشار السلاح، والمركزية، والتصدّعات المناطقية. ولعل الفساد المنفلت من دون عائق أو رادع، الذي لا يوليه الشركاء في «حلّ الأزمة» ما يستحقه من الاعتبار، يأتي في المقدمة من هذه الجوانب.

الفساد ظاهرةٌ اجتماعية اقتصادية سياسية تُعرِّفه منظمة «الشفافية الدولية» بأنه إساءة استعمال السلطة لتحقيق كسبٍ خاص. نجده في عموم بلدان العالم بصرف النظر عن نظمها السياسية وتطورها الحضاري، وبدرجاتٍ تتفاوت من بلدٍ إلى آخر.

نرى مظاهرَ الفساد في الديمقراطيات الغربية في تمويل الحملات الانتخابية - حملة الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي مثال بارز لها- وفي التبرعات لصناديق أعمالٍ خيرية خاصة برجال الحكم والسياسة، والارتشاء الذي ظهر مثالٌ له في الفترة الأخيرة في اتّهاماتٍ طالت أعضاء في البرلمان الأوروبي، وغيرها من أشكال فساد الساسة وشركات الأعمال.

لكن تلك الدول تبقى قبل هذا وبعده دولاً يسودها القانون، فيها قضاءٌ مستقل، وصحافةٌ حرة، ومؤسساتٌ تسائل وتحاسب وتردع.

عندنا لم يبق من الدولة غير شظايا هيكلها، يجوب الفساد أرجاءها وكل مستويات المسؤولية فيها، في سوريّة وسروال، تحت الشّنّة بلونيْها، وفي بدلٍ إيطالية وآخر الأزياء. الفساد في ليبيا لا يقف عند إساءة استعمال السلطة من أجل تحقيق كسبٍ خاص، فالقبليّة، بمعناها الواسع الذي يمتدّ إلى الحزب والشّلّة والمنطقة والمدينة، شكلٌ آخر من أشكال الفساد حيث يأتي الولاء للقبيلة أولاً؛ تُقـدَّم مصلحتُها ويُـعتمد على دعمها وحمايتها.

الفساد عندنا حيٌّ يتنفس ملء رئتيه أينما وُجد المال العام والشركات - أجنبية ووطنية- وحيثما كانت هناك مصالح قبليّة. يظهر في صورٍ لا تنتهي، منها ما لا يُصدّق من التزوير والتزييف، وسرقة الموارد الطبيعية، وقَطع الأشجار، وتهريب كلّ شيء من السلع المدعومة إلى الآثار والذهب والبشر. لم يأت ذلك الفساد الكبير من فراغ.

طرأت في السنوات الأخيرة تحولات كبرى في طبيعة السلطة والقائمين عليها، في دولة ريعية، مؤسساتُها أشبه ما تكون بالتكايا التي وفّرت الوظيفة والراتب وقسطاً متدنّياً من التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية، وفتحت أبواباً للإثراء غير المشروع لمن يستطيع ويقبل.

وجاء ما هو أسوأ حينما أصبح الفساد والعلاقة بالدول الأجنبية من أبواب الوصول إلى السلطة. اقتران السلطة بالفساد وغياب المساءلة قادا الفاسدين إلى التمادي في فسادهم ومراكمة ثرواتهم، ووسّعا دائرة الفساد بإغراء غيرهم بسلوك ذات الطريق حيث الكسب غير المشروع والسلامة.

أما منظومة القِـيَم الثقافية الوطنية فهي صاحبة الدور الحاسم إما في مواجهة الفساد أو إطلاق العنان لتغوّله، ليس فقط في مجال المال العام ولكن أيضاً في المعاملات الخاصة.

تأتي في المقدمة من القِــَيم المؤثّرة هنا قيمُ الإخلاص في العمل والشعور بالمسؤولية والتنافس الشريف واحترام الآخر، والوعي بمفهوم المواطَنة وحقوق المواطن وواجباته، واحترام تعاليم الدين والتأسّي بمُثُـل الفضيلة. ضعفت تلك القيم، وطرأ على المنظومة القيمية الوطنية خللٌ بالغ، يبرز كمثال عليه ما جرى من تسجيلٍ واسع لملكية بيوت سكنية لغير مالكيها بعد حرج واستنكار مبدئيّ كبير.

أضعف ذلك الخلل القِـيَمي مواجهة المجتمع للفساد وساهم في تفشّيه واستحكامه على النحو المريع الذي نراه عليه.

الممسكون بالسلطة باقون في مواقعهم ما استطاعوا وباقيةٌ معهم أسباب الفساد. يستمر هدر المال العام، وتتضاءل جدوى الاستثمار، ويضيق أفق التنمية، وتتفسّخ محاولات المشاركة الحرة النزيهة في الحكم، وتتدهور جودة الحياة. يتعاظم بمرور الزمن الإحساس بالظلم، وتتضاءل قدرة النظام على إحداث تغييرٍ ما، كما تتضاءل فرص نجاح الحلول المجرَّبة، بتقاسم المكاسب والحصص، عبر انتخاباتٍ أو من دونها.

تقترب عند ذلك احتمالات نهاية النظام بفعلٍ من خارجه أو بسقوطه سقوطاً حراً لا تُضمَن عواقبه.

اجتياز المحنة رهنٌ بتغيّرات سياسية ومؤسسية وأخرى ثقافية قِـيّـميّة. التغييرات السياسية والمؤسسية المنشودة لا تتحقق على يد سلطة ترتضي الفساد طريقاً إلى المكاسب والمصالح. رحلة التغيير طويلة، تبدأ بسلطةٍ إخلاصُها للوطن وحده؛ تحارب الفساد، وتُقيم القانون، وتُرشّد الإدارة، وتُحِلّ الاستحقاق محلَّ القبلية، وتؤسس لمشاركة شعبية في صنع المستقبل.

التغيّرات الثقافية القِـيَميّة، ليست أقل أهمية وإلحاحاً، فدورُها حاسمٌ في النجاح مثلما كان في الفشل. نفاذ القانون، وقيام العدل بين الناس، وتعليم النشء وتربيتهم، وأمثلة القدوة الحسنة من قادة الحكم والرأي والعلوم، ومن السابقين، سيكون لها الأثر الكبير في تشكّل منظومة قيم ثقافية وطنية إيجابية تمهّد الطريق نحو مستقبل أفضل.