Atwasat

المستنقع الآسن

عمر الكدي الأربعاء 18 يناير 2023, 09:46 مساء
عمر الكدي

ليبيا أشبه بمستنقع آسن ليس له القدرة على تغيير نفسه بنفسه. يحتاج دائما إلى عابر يرمي فيه حجرا فتصعد النتانة، وعندها يدرك سكان المستنقع واقعهم المرعب ويبدأون في التغيير.

حدث ذلك طوال تاريخ ليبيا. مر الفينيقيون بالمستنقع واكتشفوا الموقع الفريد الذي بإمكانهم أن يبنوا فيه مرافئ للاستراحة، وهم يجوبون البحر المتوسط، ولكن بذكاء تجار الساحل اللبناني أدركوا أن المدن الثلاث التي شيدوها في غرب البلاد لا تصلح مكانا لبناء حضارة تبقى لزمن طويل، لهذا فضلوا تونس مكانا للمراكمة، وأبقوا المدن الثلاث مجرد استراحة.

الإغريق الهاربون من موجات الجفاف وجدوا في الجبل الأخضر مكانا أفضل من جزر خاصمها المطر، وهناك فعلا بنوا حضارة فريدة احتل فيها نبات السلفيوم مركز الصدارة، لدرجة أنهم عبدوا الإله باخوس إله الخمر، وأسسوا مدرسة اللذة في الفلسفة. ترى لو لم يات الإغريق هل كان باستطاعة السكان الأصليين تغيير المكان، فباستثناء آثار الإغريق لا نكاد نجد جدارا واحدا بناه الأهالي في الجبل الأخضر حتى وصل محمد بن علي السنوسي فبنيت الزاوية البيضاء لتتحول إلى مدينة البيضاء. ثم جاء الرومان إلى غرب ليبيا وورثوا ما بناه الفينيقيون، وازدهرت لبدة الكبرى لتنجب الإمبراطور سبتيموس سفيروس.

العرب الذي مروا بالمستنقع تركوا خلفهم مقبرة الصحابة وجامع عمرو بن العاص وتوغلوا غربا. ظهر جامع الزيتونة في تونس وجامع القرويين في المغرب ولم يظهر شيء في ليبيا. المستنقع لم يكن قادرا على تحرير عاصمته من الإسبان وفرسان القديس يوحنا، فاستنجد سكانه بالعثمانيين ليبقوا في البلاد خمسة قرون. هل ثمة ليبي واحد حكم البلاد في ظل العثمانيين؟ حتى مؤسس الدولة القرهمانلية جاء من قرمان في تركيا. هل انتصر الليبيون في حربهم ضد الطليان كما يؤكد نشيدهم الوطني، ألم يحرر ليبيا من الفاشيين الطليان هو انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؟.

المهاجر الجزائري محمد بن علي السنوسي مر بالمستنقع ولم يحتمل رائحته. مضى إلى مكة وبنى زاوية على جبل أبوقبيس، وحاول نشر دعوته هناك لكن الوهابيين انزعجوا من نزعته الصوفية، فترك مكة وعاد إلى المستنقع وبفضل سلسلة من الزوايا وحد قبائل برقة المتناحرة، فقلب المستنقع ليصبح المرابطون أسبق في القيادة من قبائل السعادي، ألم يقد عمر المختار المنفي المرابط ومساعده الأوجلي الأمازيغي الفضيل بوعمر شيوخ السعادي. تلك كانت الثورة الأولى في تاريخ ليبيا وليست ثورة القذافي التي اتضح أنها مجرد بقرة حلوب، واستقل المستنقع بفضل حفيد المهاجر الجزائري لأنه راهن على بريطانيا في يانصيب الحرب العالمية. ترى لو لم يكن إدريس السنوسي موجودا هل كان سيتفق سكان المستنقع؟

الحاكم الليبي الوحيد الذي حكم البلاد منذ زمن سحيق كان معمر القذافي، وهو ما يؤكد أن الجينات الوطنية بها عيب ما علينا اكتشافه لنغير المستنقع. أنصاره في حوار الكورنثيا أصروا على تغيير العلم والنشيد حتى يقبلوا بالمصالحة، وكأن بمجرد تغيير العلم والنشيد ستنحل مشكلة البلاد، وهل استشارنا القذافي عندما غير العلم أكثر من مرة. العلم الذي يرفع أخضر خفاقا قبل أن تصليه الشمس فيصبح أصفر باهتا؟ هل استشارنا القذافي عندما غير النشيد لمجرد أنه كان معجبا بالفيلم المصري الذي غنت فيه هدى سلطان نشيد الله أكبر مع فريد شوقي في فيلم عن العدوان الثلاثي؟ وهل استشارنا القذافي عندما غير اسم البلاد فكتب على السبورة ملك تساوي مملكة، جمهور تساوي جمهورية، جماهير تساوي جماهيرية، ثم أضاف العظمى بعد الغارة الأميركية. هؤلاء الذين يطالبون بالعودة إلى العلم والنشيد المعتمدين في عهد القذافي يؤكدون أننا فعلا في مستنقع تملؤه الطحالب، حتى ولو وصفوا خصومهم بالجرذان فالجرذان تترفع أن تعيش في مستنقع.

هل كنا نستطيع إسقاط نظام القذافي لولا تدخل حلف الناتو؟ بالتأكيد لا ولكانت ليبيا اليوم أشبه بسورية الأسد. نصف سكانها مهجر والباقي نازح، لأن العامل الداخلي لم ينضج ليبني دولة. لا بد من تدخل العمل الخارجي، فالمستنقع لا يملك إلا موقعه المميز والذي يقدره اللاعبون في الاستراتيجية الدولية، ومنذ نشوب الحرب في أوكرانيا تأكدت أن شظاياها ستطال المستنقع، ويبدو أن الأميركان الذين تجاوزوا صبيانية ترامب بدأوا في خنق الدب الروسي بعد أن ورطوه في مستنقع أوكرانيا في تطويق باقي المستنقعات. هذا ما تقوله زيارة مدير المخابرات المركزية الأميركية. هذه المرة لم يرسل الأميركيون ستفاني وليامز ليحك أمامها عقيلة صالح شنته، ويخوض المشري في ثقة الإخوان المسلمين بالأميركان لأنهم من أهل الكتاب، ويحدثها حفتر عن أيامه في فرجينيا، بينما يحاول الدبيبة بدهاء تجار مصراتة أن يبيع لها الحوت في البحر. فجأة تغير كل شيء. عاد عقيلة والمشري بقدرة قادر إلى بيت الطاعة بعد الطلقة الثالثة، واجتمعت لجنة «5+5» على قعد واحد، ووصل أنصار القذافي إلى فندق الكورانثيا ليطالبوا بتغيير العلم والنشيد، وارتدى حفتر كل نياشينه في حروبه الخاسرة، وجمع الصلابي أحبابه في إسطنبول.

اكتفى بيرنز باجتماعين قصيرين مع الدبيبة وحفتر تحدث فيهما عن المطلوب منهما، وحذر من المساس بالحقول والموانئ النفطية. هل سيمضي الأميركان حتى نهاية الشوط للوصول إلى الانتخابات؟ أم أنهم سيغيرون رأيهم إذا قبل بوتين بالتراجع في أوكرنيا؟ كل ما أنا متأكد منه أن المستنقع لا يستطيع تغيير نفسه حتى إذا أجريت فيه الانتخابات. هل سمعتم بمستنقع بنى دولة؟. في الاستقلال الأول لم يعترض السوفيات على اتفاقية بيفن سفورزا، وإنما طالبوا بقاعدة في شرق البلاد وأخرى في غربها، فوافق الغرب الاستعماري على منح ليبيا استقلالها، بينما كل الظروف الموضوعية تؤكد أن المستنقع غير جاهز لهذه الخطوة، وهل هو جاهز اليوم؟