Atwasat

الاستنباء

أحمد الفيتوري الثلاثاء 27 ديسمبر 2022, 11:00 صباحا
أحمد الفيتوري

-  من سيكون رفقة الرحلة؟

-  لست على علم بالمرة

قبلها اجتاحه يقين: أن تأتي الحافلة / أن تتخذ مدخل البيت محطة/ أن تواجه نافذة الحافلة باب البيت/ من حيث تطل/ وهو يهم خارجا، يراها.

أن يحدث هذا، هذا هو الاستنباء.

إذا كان الودان لا يرى إلا تحت قدميه، فإن يوسف القويري الروائي يرى ما قدام قدميه، أي أن الكائنات الأدنى لا ذاكرة لها تخزن الماضي، لكن القويري له ذاكرة. غير أن فعل هذه الذاكرة عند الكائن الأعلى مقلوبة، حيث هي مرآة المستقبل رغم أنها حصاد الماضي. وكأن الإنسان كائن اليوتوبيا فهناك دائما شيء مفتقد، ثمة ضوء قد انسحب، إن عالما جرد من الحدس والتوقع يصبح كئيبا باردا.

في النص مدخل المقال، يبدو العاشق حاشدا لكله، لاستكناه ما سيحدث ويحدث، فالرغبة في الحياة فكرة مستقبلية، وكأن الحياة فكرة غيبية عند الكائن الأعلى، أو على الأقل فكرة الخيال الذي يتجاوز الحقيقة المحدودة، ليلتقط إمكاناتها الكامنة، لهذا في نص الاستنباء، العاشق يكمن عدم علمه الإطلاقي في تيقناته، أي استبصاراته المبنية على الرغبة، المعللة بجملة معطيات كامنة في الذاكرة، خلاصتها حزمة احتمالات، معرفة في حدها الأدنى لإمكانية مجيء الحبيبة، الرحلة تكون في حافلة التي لا بد أن فيها نوافذ، النافذة التي تكون قبالة البيت ستكون هدف الحبيبة، التي قد تكون تعرف البيت، الذي قدامه مكان لوقوف الحافلة، وهو يهم خارجا، يراها. أن يحدث هذا، هذا هو الحدس.

بهذا المعنى الحياة مشروع معاش، كامن عند الإنسان في استهدافه الخلود، حتى خلود الروح، بقدر ما هي فكرة ميتافيزيقية، هي مسألة لمعالجة حب الإنسان للحياة، والرغبة المتأصلة فيها. وأليس الحدس والخيال هما الجانب الأيمن والأيسر للعقل؟، وقد اهتدى «دابليو سبيري» إلى أن المخ الإنساني له نصفان كرويان، حيث النصف الكروي الأيسر من المخ يهيمن على اللغة، على حين أن الأيمن يختص بالتعرف أو التمييز، وكذلك يتعلق الأيسر بالمنطق واللغة، بينما يختص الأيمن بالتذوق كالاستمتاع الفني. ومن الأمور ذات الدلالة أن المخ الأيسر لديه إحساس قوي بالزمان، على حين أن الأيمن لا يملك شيئا من هذا الإحساس. وبهذين معا الخيال والحدس، يكون الكائن الأعلى مشرفا على ما سيكونه، وقد كتب «أندريه بريتون» في البيان السريالي: إن الانحطاط بالخيال إلى حالة العبودية، هو خيانة لكل معني العدالة المطلقة داخل الذات، الخيال وحده هو ما يقدم لي شيئا من التلميح، بما يمكن أن يكون.

عندما كتب هـ . ج . ويلز في عام 1895م روايته، فيما عرف بعد بالخيال العلمي، «آلة الزمن»، عرض على قرائه افتراضا جديدا مثيرا وآسرا، أن الزمان ليس أكثر من بعد رابع للمكان، وما أراد ويلز أن يوحي به، هو أن السفر في الزمان ملكة عقلية نمتلكها فعلا، ولكن في نطاق ضيق، ويعلق كولن ويلسون «ومن ثم فأياً كان ما نعرفه أو ما لا نعرفه عن الزمان، فهناك شيء واحد يبدو مؤكدا هو أن الفهم المتزايد لقوانا الكامنة، يجلب مزيدا من الاستبصار في طبيعة الزمان، وسوف نكتشف أن آلة الزمان التي تخيلها ويلز، هي العقل البشرى نفسه>>.

وأن يعيش المرء يوما لم يقع بعد، وهذا على ما أظن، هو ما يمكن أن يوصف بأنه سفر في الزمان، بهذا المعنى يوسف القويرى يكتب عام 1965 م مفكرته لعام 2565 م .ويكون «من مفكرة رجل لم يولد» أول استخدام في الأدب الليبي، للخيال والحدس لأجل استشراف واستكناه المستقبل، من خلال معطى العلم، فالنص/ الرواية تستدعي الخيال العلمي لموضوعها، لأن الأفق الإنساني في الخطاب السردي مسباره العلم المحض، وقد جعلت البنية السردية من المفكرة أداة السرد، فالمفكرة شكل من أشكال المذكرات أو التقارير العلمية، لتأكيد ذلك المفكرة تحتوي يوميات بين 7 أكتوبر 2565 ميلادية و17 أغسطس 2567 ميلادية، وتحتوي على مذكرات 73 يوما تقريبا. وكذلك يمكن ملاحظة أن لغة التقرير هي لغة هذا النص، فيما الحدث الرئيس يرتكز على حوار بين زوج وزوجته، في بيت من بيوتات المستقبل التي لا تزخر فحسب بمقدرات علمية تكفل الراحة، ولكن أيضا مشحونة بعواطف مزهرة وعقل متفتح،عينه على الماضي بحس نقدي عالي النبرة، وحتى استعلائي.

وحيث إن كل بنية سردية تتكئ على وقائع، فإن بنية المفكرة تتخذ من الحوار واقعة، لتطرح مجموعة من المفاهيم الإنسانوية التي مرتكزها العلم «العلم الطبيعي هو الطاقة المحركة للتاريخ الإنساني، وإن الفكر والقيم كانتا دائما تعبيرات ثانوية لاحقة، لحصيلة المجتمع من العلوم، في أي مكان وزمان»، أو كما قال محمد المفتي. ولقد كتبت هذه الرواية ونشرت على شكل عمود صحفي، في ستينيات القرن العشرين، حيث سيطرت أحلام كبرى في التقدم الاجتماعي والتطور العلمي، ومن هذا جاء الحس التعليمي، المدسوس في النص والنظرة الإنسانوية الغالبة، واتخذ النص الروائي مسلكا سردويا حواريا.

كما أن النص على تماس مباشر بالمدرسة الواقعية النقدية، التي سادت تلكم المرحلة، وإذ ذاك اتخذت هذه المدرسة روحا تبشيرية، بعالم جديد يسوده العلم. وكانت الرواية كناثر للواقع هي الجنس الجديد أداة المرسل لرسالته النبوئية؛ فـالرواية كقصة خيالية نثرية تحاول تصوير أو توضيح التجربة والسلوك الإنسانيين، ضمن الحدود التي تفرضها واسطة اللغة وضرورات الشكل، بالاقتراب أكثر ما يمكن مما نفهم أنه الحقيقة الواقعية. وككل عمل إبداعي فإن عين «من مفكرة رجل لم يولد» على الواقع ويستمد معطياته من هذا الواقع. وهو يرسم يوتوبيا العلم، يضرب من موقعه في المستقبل المفترض، الحاضر الراكد والسائد البليد، فالخيال العلمي يفترض عقم الحاضر لذا يستولد المستقبل.