Atwasat

آمال طه حسين و«أحلام شهرزاد»

عمر أبو القاسم الككلي الإثنين 26 ديسمبر 2022, 01:03 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

لطه حسين كتيب بعنوان «أحلام شهرزاد»* تبدأ الحكايات فيه من الليلة التاسعة بعد الألف عقب نهاية حكايات الألف ليلة وليلة المعروفة وتنتهي عند الليلة الثالثة عشر. لكن إذا كانت حكايات «ألف ليلة وليلة» تحكيها شهرزاد وهي مستيقظة، فإن حكايات «أحلام شهرزاد» تحكيها شهرزاد وهي نائمة، أي أنها تحلم وهي تحكيها. في الحالة الأولى تكون مختارة لما تحكي وواعية لها، أما في الحالة الثانية فتحكيها من خلال لا وعيها ولا تتذكر ذلك ولا تعلمه حينما تستيقظ. وإذا كان مناط معظم حكايات الألف ليلة وليلة حياة البشر وما يجري لهم، فإن حكايات «أحلام شهرزاد» تدور حول الجن، وبالذات حول أحد ملوك الجن، طهمان بن زهمان وابنته فاتنة.

وهنا نريد أن نتوقف قليلا ونقرأ اسم هذا الملك واسم ابنته قراءة سميولوجية، أي دلائلية.

فاسم طهمان يحتوي الاسم الأول من اسم طه حسين نفسه «طه»، وهذا الاسم يستدعي لدى المسلمين أحد أسماء الرسول. كما أن «طهمان» يحتوي الفعل «طهم» والصفة المشتقة منه "مُطَهَّم تعني، حسب «لسان العرب»: «الْمُطَهَّمُ مِنَ النَّاسِ وَالْخَيْلِ. الْحَسَنُ التَّامُّ ڪُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ فَهُوَ بَارِعُ الْجَمَالِ». وبذا فاسم «طهمان» يحتوي معنى البشير «طه» كما أنه يحتوي صفة الحسن والاكتمال. واسم زهمان يحتوي الفعل «زَهَمَ» الذي يعني، حسب القواميس العربية «زَهَمَ العظمُ ـُ زَهْماً: جرى فيه المخّ» و «زَهِمَتْ الدّابة: سَمِنت وكَثُر شحمها فصارت لها زُهُومةٌ«، أي أنه يعني صلابة العود والحسن والامتلاء، أي الصحة.

وإذا قرأنا اسم «فاتنة» قراءة دلائلية تحضر إلى فهمنا «الفتنة». وفي التاريخ العربي الإسلامي تعني «الفتنة» الثورة، وهي شيء مكروه لدى طائفة السنة، والمعنى الذي نعطيه الآن للفظة «الثورة» حديث جدا ولا يوجد في القواميس القديمة. وبالتالي يمكننا أن نعتبر فاتنة «ثائرة».

وإذن، فاسم ملك الجن واسم ابنته الواردين هنا حافلان بالمعاني الإيجابية.

في رواية «أحلام شهرزاد» تتداخل روايتان وتتضافران. فلدينا من جهة رواية علاقة شهريار وشهرزاد، ولدينا من الجهة الأخرى رواية علاقة طهمان بن زهمان وابنته. وشخصيتا شهرزاد وفاتنة تكادان أن تتناظرا. فكلتاهما شخصية غامضة، الأولى غامضة بالنسبة إلى شهريار الذي يراها «غامضة دائما مدلة دائما، لا تدنيه إلا لتقصيه، ولا تلطف به إلا لتعنف عليه» (ص54)، وكثيرا ما كان يسألها: «ألا تنبئينني آخر الأمر: من أنت وماذا تريدين؟» (ص47). ويسأل طهمان ابنته عندما صدر منها ما عده هو وغيره من ملوك الجن وقادتهم سحرا: «ألم يأن لك يا ابنتي أن تكاشفي أباك بشيء من هذه الأسرار التي عُميتْ عليه وعلى أهل المملكة جميعا؟! وما أرى إلا أنها معماة على أعدائنا» (ص118).

وعن ما عُد سحرا تقول فاتنة: «إنه السحر لأنه غير مفهوم، وسيظل سحرا ما دام سرا مكتوما فإن أزيلت عنه الأستار وفهمت مخبآته أصبح علما شائعا يشارك فيه القادرون على فهمه والنهوض بأعبائه» (ص110). فيسألها أبوها: «ومتى يمكن أن يفهم ويكشف عن مخبآته؟» (ص110). فترد فاتنة: «بيننا وبين ذلك آماد يا أبت» (ص110). وفي هذا رؤية مستقبلية من قبل فاتنة. وتتناظر شهرزاد وفاتنة في أن كلا منهما إضافة إلى «حسنها الرائع وجمالها البارع ذكية القلب نافذة البصيرة، قد قرأت كتب الأولين وعرفت حكمة المحدثين».

وفي الرواية حوار بين طهمان وابنته فاتنة حول شؤون الملك والحكم. يقول طهمان مخاطبا ابنته فاتنة: «ومن القسوة يا ابنتي أن ننعم وهم [الرعية] بائسون، وأن نقوى وهم ضعفاء، ونثرى وهم فقراء» (ص60). ويقول: «ونحن [الملوك] قد ألفنا أن نأمر ولا نأتمر، وأن ننهى ولا ننتهي، وأن نطاع ولا نطيع، فأصبح الشذوذ لنا طبيعة، والجموح لنا فطرة، والاستبداد بالحياة والأحياء لنا قانونا» (ص61). ويضيف: «فإذا تحدث إلينا متحدث بالحق، أو دعانا داع إلى العدل، أو رغبنا مرغب في أن ننصف من أنفسنا كما ننتصف لها، ضقنا بذلك أشد الضيق، وكرهناه أعظم الكره، ونكلنا بمن يدعونا إليه أو يرغبنا فيه تنكيلا» (ص61). ويوجه النصح لابنته التي ستخلفه في تولي حكم المملكة: «ففكري يا ابنتي في رعيتك وارفقي بها» (ص62).

ويقول لها: «أرجو أن يهيئ لك علمك وحكمتك ابتكار لون من ألوان الحياة لا تشقى فيه الشعوب بسعادة الملوك والزعماء» (ص63). وترد عليه فاتنة: «فأنبئني يا أبت ما بال هذه الرعية لا ترفق بنفسها ولا تعنى بأمرها ولا تفكر في مصالحها، وإنما ندعوها فتجيب، ونأمرها فتطيع، ونوجهها إلى حيث تشاء فتتجه إلى حيث نشاء، ولا يخطر لها أن تأبى إذا بلغها الدعاء، ولا أن تعصى إذا صدر إليها الأمر، ولا أن تمتنع إذا وجهت إلى حيث لا تحب؟! أفنكون أرفق بها من نفسها، وأحرص على مصالحها، وكرامتها مما تحرص هي على مصالحها وكرامتها؟!» (ص64-65). ويرى الملك طهمان أن «التفريق بين السيد والمسود خطأ» (ص66)، لا ينبغي له أن يستمر وأنه صار من الممكن بما تحقق من ارتقاء العقول ونفاذ الأبصار إلى كثير من الحقائق ومعرفة «أن هذه الفروق بيننا وبين الرعية مصطنعة لم تأت من الطبيعة وإنما جاءت من الحضارة [...] أن نصلح أغلاطنا ونقوم اعوجاجنا؟!» (ص66). ويرى الملك طهمان أنه آن الأوان للإيمان بأن «حياة الملوك ليست حقوقا كلها ولكنها واجبات أيضا، وربما كان نصيب الواجب فيها أعظم من نصيب الحق. ما الذي يمنعنا أن نشعر الرعية بنفسها ونبصرها بحقها كما بصرناها بواجبها، ونهيئها لا أقول لتستأثر دوننا بالأمر،ولكن لتشاركنا في الأمر وتعيننا على احتمال أعبائه الثقال؟!» (ص67).

____________________

* يبدو لي أن لب رواية «أحلام شهرزاد» الذي يبشر به طه حسين هنا هو الديمقراطية وحرية الرأي والحقوق السياسية والنظرة المتفائلة إلى المستقبل. ولعل تقديرنا لهذه «البشائر» يزداد إذا علمنا أن الكتاب صدر في يناير 1943، أي قبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بحوالي ست سنوات.

* طه حسين. أحلام شهرزاد. دار المعارف. سلسلة اقرأ ع1، ط 9 (د. ت) وأرقام الصفحات الواردة في المتن تحيل إلى هذه الطبعة.