Atwasat

التنظيمات السياسية في ليبيا 1952 - 1969 (4)

سالم الكبتي الأربعاء 07 سبتمبر 2022, 12:19 مساء
سالم الكبتي

لقد أدرك الملك إدريس طوال حياته السياسية أن وطنه يقوم أساسه في الأصل على مجتمع لا يزال (قاصراً) في كثير من النواحي بحكم عوامل كثيرة ليس آخرها قلة المعرفة والثقافة والوعي، مجتمع قاصر عن فهم ماهية الأحزاب وطبيعتها، مجتمع تتجاذبه التقاليد وأعراف القبيلة أكثر من مبادئ الحزب الذي ينشأ بلا جذور قوية في هذه البيئة المحدودة معرفة ووعياً. كانت القبيلة تقع في الغالب في المقام الأول وما عداها فهو هش وضعيف.

كان الملك أيضاً يعرف أن الفشل سيكون نصيب تلك الأحزاب في هذا المجتمع البسيط المتباعد الأطراف الذي يشكل ليبيا بكل أطرافها وتناقضاتها، والذي يسعى إلى الاستقرار والسكينة أكثر مما يسعى إلى تسويه نداءات الأحزاب والحاجة إليها.

أذكر أن السيد حسين مازق في لقاء لي معه في مايو 1991 أخبرني بأنه خلال رئاسته للحكومة.. (في العام 1966 قابلت الملك واقترحت عليه تأسيس ثلاثة أحزاب تساند حرية الرأي والتعبير والحراك السياسي لدى المواطنين، وتدعم البرلمان بالتوجيه والنصح للسير نحو الأفضل وكذا الحكومة. هذه الأحزاب تكون بهذا الشكل واحداً محسوباً على الحكومة والآخر معارضاً، والثالث مستقلاً ومحايداً في الوسط.

أيد الملك من فوره هذا الاقتراح. كان يشعر بأن البلد تتعرض لصوت قوي من الخارج على الدوام، لكنه تساءل في ذات الوقت عن الضامن لعدم وقوع أي من هذه الأحزاب على حد سواء في شراك أية جهة خارجية، وكان له الحق في هذا التخوف والتساؤل.

وأذكر أن السيد عمر الشلحي مستشار الملك أخبرني أيضاً في لقاء جمعني به منذ أكثر من عشر سنوات بأن الملك: «عاش في مصر فترة طويلة منذ أن كان أميراً. كان مهاجراً هناك كما يعرف الجميع، وواصل نشاطه السياسي رغم القيود التي فرضها الإنجليز والطليان تلك الأيام عليه.

هذا النشاط جعله يدرك حقيقة الأحزاب السياسية في مصر وغيرها، واقترب من رجالها وزعمائها وناقشهم وتحاور معهم، الوفد، الدستوريين، الإخوان المسلمون، وغيرهم.

وتابع صحفهم ونشاطتهم وارتبط بعلاقات جيدة مع كثير من قادتها وأبرز أعيانها وشاهد الصراعات بينهم، وخلص إلى أن ذلك لا فائدة منه، ويقود الأوطان إلى الهلاك. وعلى هذا انطبعت هذه الصورة القاتمة في ذهنه ولم تفارقه أيضاً عقب عودته إلى البلاد خلال الحراك الذي شهدته ليبيا قبيل الاستقلال وبعده.

في الحقيقة كان يخشى أن تنجر البلاد وراء الصراعات والانقسامات الحزبية والبلاد غير مهيأة لذلك.

كان يرى أن الأحزاب خراب شامل سيؤدي إلى كوارث. باختصار كان يخشى على البلاد منها».
رأيان سمعتهما من رجلين عرفا الملك عن قرب واقتربا من تفكيره ورؤيته للأمور عبر فترة من الأعوام من المعايشة والتجربة، وقد تكون هناك آراء أخرى في نفس الاتجاه لدى كثيرين غيرهم.

إضافة إلى أن عديد الأمثلة والوثائق تؤكد أن الملك منذ أن كان أميراً وعبر تصريحاته وخطبه في كثير من المناسبات ومراسلاته تؤيد ذلك تماماً، ومن هذا نداؤه الذي وجهه في الثاني عشر من فبراير 1948 إلى إخوانه الطرابلسيين الأعزاء، الذي ورد فيه قوله: «بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أوجه إلى حضراتكم جميعاً باسم الوطن المقدس هذه النصيحة وهي حل جميع الهيئات والأحزاب على اختلاف أنواعها وتشكيل هيئة واحدة بأسرع ما يمكن لتواجه الأحداث المنتظرة إن كان هذا يروق لكم. ولله الأمر من قبل ومن بعد».

قد تكون رؤية الملك السياسية للأحزاب صائبة، وقد تكون غير ذلك، لكنه ظل ينظر إليها بصورة عامة بنظرة لا تخلو من الشك والريبة والخوف على مستقبل البلاد. إن هذه البلاد في رأيه في مرحلة توحيد الصفوف وتكاتف الأيدي وهي تحتاج إلى ذلك بدلاً عن بعثرة الجهود وتشتتها.

كان يرى أن هذه النظرة تعني الواقعية ولا تعني التردد ولا تحتمله على أي من الوجوه. ولهذا توقفت الأحزاب بشكلها القديم عشية الاستقلال ولم تعد ثمة جماعات تعمل على أرض الواقع بشكل سياسي ظاهر وعلني ومسموح به من قبل السلطة التي ظلت تمثل لدى الكثيرين جبل الثلج.

اختفت الوجوه والزعامات وركنت إلى الراحة أو لجأت إلى نشاطات أخرى توارت خلفها ومارست في الغالب نشاطها الجديد، وهي تحمل ذكرياتها القديمة ونضالها السابق دون أي تطور أو تقدم بهذا التاريخ إلى الأمام. خاض بعضها الانتخابات النيابية الأولى في ليبيا في فبراير 1952 وما تلاها أيضاً من انتخابات في دورات أخرى على مستوى مجلس النواب في المملكة والمجالس التشريعية في الولايات، وفاز مجموعة من هؤلاء (حزب المؤتمر مثالاً) بعضوية خمسة من رجاله في أول برلمان، واتجه العديد في مراحل متعاقبة من زمن دولة الاستقلال إلى النشاط الاقتصادي الخاص..

الشركات والمقاولات والمكاتب وغيرها. فيما اختيرت مجموعات منهم أيضاً لتقلد المناصب في الدولة، وزراء في عدة حكومات ونواباً وشيوخاً وقضاة ورؤساء محاكم وسفراء ورؤساء جامعات، وخبت الروح القديمة وماتت القيم الحزبية السابقة عند كل هؤلاء.

وأقارب القول هنا بأن «احتواء» لهذه الجماعات أنجز بذكاء من السلطة لصرفهم عن العمل السياسي وإقحامهم في الإسهام في بناء الدولة، والاقتراب من المشاكل التي تخوضها دون أحزاب.

ونجحت في الواقع هذه الطريقة الاحتوائية حتى وإن لم تقصدها السلطة بطريق مباشر إلى حد بعيد والأمثلة كثيرة. وستصادف المتابع للحياة السياسية الليبية المعاصرة بأن الطريقة ذاتها تكررت أو تجددت عندما خبت روح التنظيم السياسي لدى بعض من المجموعات الأخرى التي ستعود من الدراسة في الخارج إلى البلاد، وكانت قد انتمت خلال دراستها إلى تنظيمات وأنشطة حزبية خاصة في مصر ولبنان.

وعلى مستوى مجلس النواب وفي أغلب دوراته، صار هؤلاء الأعضاء السابقون في التنظيمات السياسية قبل الاستقلال يشكلون (معارضة) داخل البرلمان ويتصدون للحكومة في برامجها المختلفة، وأُتيحت لهم بحكم الحصانة البرلمانية فرص التحدث والتحرك والتعبير بحرية تامة، ورأينا أو سمعنا أو قرأنا عن العديد منهم من الذين وقفوا ضد جملة من المشاريع التي عرضت لنيل الموافقة من البرلمان من مختلف الحكومات..

على سبيل المثال عقد المعاهدة البريطانية العام 1953 ثم الاتفاقية الأميركية العام 1954 ثم المعاهدة الفرنسية العام 1956 ورفض وجود القواعد في البلاد وبعض مظاهر الفساد وتزوير الانتخابات ونقد الحال الذي يجري، وتنبيه المسؤولين إلى شكاوى المواطنين، وغير ذلك من قضايا.

ولعل هذا شكل ضيقاً أو تبرماً لدى السلطة نتيجة علو الصوت المعارض واضطرتها إلى قطع الطريق أمام هذا الحراك بمنع هؤلاء النواب من التواجد أو الفوز في دورات جديدة.

إن ذلك تم داخل البرلمان العتيد بعيداً عن الأحزاب والتنظيمات والتكتلات رغم ما يعتري اللحظات أحياناً من وصف هؤلاء النواب بأنهم من جماعة المؤتمر أو جماعة الجمعية، وسواهما، ولوحظ في الواقع بطريقة جلية أنه لم تكن هناك عداوات أو أحقاد سادت هذه الحقبة رغم أوجه الاختلاف ولم تكن ثمة تصفية جسدية بين الفرقاء. لم يكن العنف من طبيعة المجتمع أو طبيعة السلطة أيضاً حتى في أمور السياسة. يحدث الاختلاف والتجاذب والصراع، ولكنه لا يصل إلى مراحل التصفية على الإطلاق.

وبالقطع لم يعد هناك والحال كذلك، أية تنظيمات محلية سياسية على هذا النسق. لقد ولدت سريعاً وانتهت أيضاً على وجه السرعة، وكل ما هنالك كما أشرنا لأن كل الوجوه القديمة اندمجت اندماجاً كاملاً في هياكل الدولة وظلت تتحرك وتعمل من خلال هامش الحرية المتاح الذي كفله الدستور وخلقه وجود الصحف والنوادي والجمعيات الثقافية والاجتماعية والرياضية.

ورغم ذلك حدث المتوقع نتيجة للفراغ الذي ظل واسعاً ويضرب أطنابه في كل المفاصل، وسيسمح بكل سهولة لنهوض العمل السياسي السري، الذي سيأتي من الخارج في تنظيمات لم تشهدها ليبيا سابقاً.