Atwasat

الانحراف عن المسار ومفاقمة العطش

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 10 مايو 2020, 11:08 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

حاول سالم العوكلي في مقاله " انحراف المسار لا يعني الضياع"* وضع النظام الملكي الذي تولى حكم ليبيا ضمن الفترة 1952- 1969، في إطار تاريخي موضوعي، حيث اقتصر على وصف الدولة عهدذاك بأنها دولة مدنية قوامها القانون والمؤسسات في إطار نظام ملكي دستوري، ولم يصفه، مثل العديدين، بأنه نظام ديمقراطي.

وأنا أتفق، مبدئيا، مع سالم في تصنيفه الإطاري العام لذالك النظام.

إلا أنني أخالفه في قوله أن الدولة الملكية "وضعت المجتمع [الليبي] على طريق الدولة الحديثة، وضمن ديناميكية قابلة للإصلاح والتنقيح". وهو نفسه يورد في مقاله ما يتنافى مع تقريره هذا، حين يتحرز قبل إيراد هذا الحكم بالقول "ورغم اعتراض الكثيرين على طبيعة تلك الدولة من ناحية الحريات واستقلال السلطات... ورغم المنع للأحزاب لأسباب متعلقة بطبيعتها [الأحزاب] في ذاك الوقت...". وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى طرح السؤال التالي:

ما الذي يبقى من "ديناميكية قابلة للإصلاح والتنقيح" في نظام لا يراعي "الحريات واستقلال السلطات" ويمنع الأحزاب؟. ألسنا هنا أمام توجه نحو فرض الصوت الواحد؟.

لكن ما يذهلني فعلا من قِبل سالم العوكلي هو تبريره لـ [كي لا أقول دفاعه عن] حظر الأحزاب من قبل الملك، بقوله أن هذا المنع تم "لأسباب متعلقة بطبيعتها في ذاك الوقت". ولسنا ندري ما هي الطبيعة التي سوغت للملك، وبالتالي أقنعت سالم العوكلي، بأن منع الأحزاب، "في ذاك الوقت"، كان عملا إيجابيا في صالح الوطن والديناميكية القابلة للإصلاح والتنقيح.

ويورد سالم، في معرض دفاعه الهاديء عن الملك، واعتمادا على بن حليم "أن الملك... لم يُخفِ زهده في السلطة وسعى لتقديم استقالته أكثر من مرة، كان يبحث عن مخرج آمن للانتقال السياسي مع عدم قناعته بنظام التوريث، ويذكر السيد مصطفى بن حليم أن السيد إدريس حدثه عن النظام الجمهوري وأنه غير مقتنع بنظام الوراثة الذي أوجده معاوية". ونحن نصدق هذا القول. لكننا نرجح أن هذا السعي لم يكن زهدا في "نظام الوراثة الذي أوجده معاوية" وإنما هو بسبب عدم وجود وارث للملك من صلبه، ولعله لم يكن يرغب في انتقال العرش إلى ابن أخيه، أو لم يكن يثق في كفاءته بشأن القيام بمسؤولية إدارة الحكم.

وإذا أضفنا إلى ما أورده سالم من عدم مراعاة الملك استقلال السلطات وحظر الأحزاب، تعطيلَ البرلمان، حيث من المعلوم أن آخر انتخابات برلمانية جرت سنة 1965، ولم تُجرَ الانتخابات المفترضة سنة 1968، فما هو نوع الجمهورية التي يعتقد سالم أنها كانت يمكن أن تحدث برضى الملك؟. ألن تكون جمهورية مماثلة، أو شبيهة، لجمهورية معمر القذافي؟. ألا يمكننا، إذا مددنا المعطيات التي أوردها سالم العوكلي إلى مداها المنطقي الأقصى، اعتبار معمر القذافي الوريث الحقيقي [وإن لم يكن الشرعي] للملك في موقفه من استقلال السلطات والأحزاب والبرلمان، وأن معمر القذافي حمل رسالة الملك وطور خطه ووسعه وعمقه في سعيه لدكتاتورية الصوت الواحد؟. ألم يكن معمر القذافي، في هذا السياق، شديد الوفاء للملك؟.

وسالم يستدل على مكانة النظام الملكي الليبي في نفوس الليبيين بواقعة أن ثورة 17 فبراير 2011 "تزينت... بديكور وإكسسوار مرحلة الاستقلال السابقة، وكأنها تعيد الزمن إلى اللحظة التي توقفت فيها الدولة المدنية بانقلاب 1969 الذي ألغى الدستور ومؤسساته، ووضع السلطة تدريجيا في يد شخص واحد". وهنا يغمض سالم عينيه، إغماضا تاما، عن أن الخروج المبكر لمناطق شرق ليبيا من سيطرة النظام هو الذي أوجد هذه الواقعة، بسبب الحنين الشعبي هناك إلى النظام الملكي، والارتباط الوجداني بالحركة السنوسية، ووجود تيار فدرالي قوي يسعى إلى إعادة النظام الفدرالي،

وأن أهالي منطقتي طرابلس وفزان آثروا، مثلما فعلوا في الأربعينيات عندما وافقوا على أن يكون محمد إدريس السنوسي ملكا على ليبيا كلها، عدم إثارة النزاعات والشقاقات، لأنهم رأوا أن هذا يفشل الثورة ويقود إلى تقسيم البلاد. أما الملك كشخص، والسنوسية كحركة، فلا يحظيان، في الغرب الليبي بالذات، إلا بمجرد الاحترام، البعيد عن التبجيل الذي يتاخم التقديس. وهذا يعني أنه لو سبقت مدن الغرب الليبي إلى التخلص من سيطرة النظام لكانت " تزينت... بديكور وإكسسوار" مختلفين.

ثم يصل سالم، بعد رحلة طويلة يبدو أنه تجشم فيها عبء حمل الحجج، إلى الهدف المبتغى المرتبط بالزمن المضارع المستمر، حيث يقول "الأزمة في ليبيا مازالت تضع المستقبل أمام سيناريوهات جميعها خائن لأهداف ثورة فبراير، وانحصر الصراع بين الجيش الليبي النابع من مجلس النواب المنتخب محليا والمعترف به دوليا، والميليشيات المسلحة النابعة من اتفاق الصخيرات المعتمد دوليا".

والسؤال هنا: عن أي مجلس نواب يتحدث سالم؟. هل هو مجلس النواب الذي يتحكم في فتحه وإغلاقه "بو عكوز" ويتخذ قراراته دون النصاب وأحيانا تفرض بأيمان الطلاق؟. كما أن مجلس النواب لم يعد قائما منذ سنة بسبب انقسامه بين من يعتبرون العمل الحربي [وليس العسكري بالمعنى المؤسسي] الموجه ضد طرابلس يستهدف تحريرها، وبين من يعتبرونه عدوانا غاشما عليها، يقوده مهووس سلطة، يستهدف تدميرها. ويستطرد سالم "وبغض النظر عما يوجه للجيش من انتقاد فإن له تراتبيته وقادر على أن يجمع كل السلاح خلال أسبوع في المناطق المسيطر عليها، وفي الطرف الآخر ثمة ميليشيات مسلحة لا يمكن جمع السلاح في المناطق المسيطرة عليها إلا بمعجزة".

والحقيقة أنه لا دراية لي بآليات جمع السلاح في وضع مثل الوضع الليبي الجاري، ولا أنتظر المعجزات، إلا أن السؤال: أين هو الجيش محل الحديث؟. هل التشكيلات المسلحة [المليشيات] المتكونة من أفراد عاديين وتشكيلات وهابية وأخرى قبلية وتشكيلات المرتزقة الروس والسودانيين والتشاديين والسوريين، تعتبر جيشا وطنيا ليبيا؟. ما يبدو لي أنه لا وجود للجيش، بمعنى المؤسسة العسكرية التقليدية، في أية منطقة من ليبيا. ما هو موجود مجرد مليشيات. ويرى سالم أن الجيش "مهما كان ضعيفا أو متغولا أو مسيسا أو مستعينا بقوى مدنية أو دينية داعمة فهو بنية قابلة للتطوير وقابلة للإصلاح وقابلة للدسترة ولوضعها في إطار القانون مع الوقت لأنه بنية مفتوحة للتعديل".

أنا أقدر تعطش سالم العوكلي لوجود مؤسسة عسكرية تقليدية، وتعطشه للإصلاح والدسترة والقانون، والديمقراطية، ففي هذه المطالب المبدئية أقف أنا وسالم على نفس الأرضية، إلا أنني أرى أن سالم انحرف عن مساره، وهذا الانحراف فاقم عطشه وجعله يعتقد أن السراب الذي يراه ماء.

http://* http://alwasat.ly/news/opinions/282280?author=1