Atwasat

الحنين إلى الدكتاتور

إبراهيم حميدان الأربعاء 07 يونيو 2023, 04:31 مساء
إبراهيم حميدان

لماذا تشتاق الشعوب إلى جلاديها بعد رحيلهم؟ ولماذا تتوق إلى أن يحكمها جلاد جديد بعد أن تكون قد ثارت على الجلاد السابق، وأطاحت به، وقدمت في سبيل ذلك أثماناً باهظة من أرواح أبنائها وبناتها؟

لماذا تسيطر على أذهان الكثير من الناس فكرة البطل المنقذ، والمخلص الذي يقدم حلولاً سحرية لآلام وأوجاع الشعب؟ سؤال لا بُد أن يطوف في ذهن المرء وهو يرى ويسمع أصواتاً تتصاعد منذ سنوات عديدة في أكثر من بلد عربي من البلدان التي أطاح فيها الشعب بالدكتاتور، منذ العام 2011، الذي شكل بداية ما أصبح يعرف بثورات الربيع العربي بعد عقود من الحكم الفردي، مصر، تونس، اليمن، ليبيا، إضافة إلى العراق الذي لم تحدث فيه ثورة شعبية ولكنه يمر بوضع سياسي غير مستقر منذ الاحتلال الأميركي للبلاد العام 2003 الذي أدى إلى سقوط حاكمه صدام حسين، وأيضا سورية التي لم يسقط فيها الدكتاتور لكن فئات من الشعب تراجعت عن حماسها للثورة التي انطلقت منذ2011، وقوبلت بالعنف من قبل السلطة ما أدى إلى تفاقم أزمات البلاد.

الأصوات التي نتحدث عنها تعبر عن شوقها إلى زمن الطاغية، بعد أن زالت لحظة الانتشاء بسقوط النظام، وبدأت الأوضاع تتكشف عن أزمات اقتصادية، أسوأ من تلك التي كان يعيشها المواطن خلال مرحلة حكم الديكتاتور، علاوة على تردي الأوضاع الأمنية التي شملت عمليات الخطف والاغتيال والاشتباكات المسلحة بين المجموعات المتناحرة، وأيضاً الصراعات السياسية بين الأطراف المختلفة، والفساد المالي في صفوف النخبة الحاكمة، وظهور الجماعات الإسلامية المتطرفة، وما خلقته من رعب في المجتمع، بسبب ممارساتها العنيفة، وتفجر الصراعات الطائفية والقبلية والجهوية، الأمر الذي صار يهدد وحدة بعض البلدان وينذر بالتقسيم، في أكثر من بلد عربي.

وقد أدى هذا كله إلى موجات من التشرد والهجرة والنزوح إلى مناطق أكثر أمناً في قرى أو مدن بعيدة عن جبهات الاقتتال داخل البلاد أو اللجوء إلى دول مجاورة وأخرى بعيدة.

كل هذا دفع الكثيرين إلى التعبير عن حنينهم إلى «زمن الدكتاتور». ولا يشمل حديثي هنا المنتفعين من الأنظمة المنهارة، فهؤلاء لا يشتاقون إلى الدكتاتور بل إلى مصالحهم التي ضاعت مع سقوط الدكتاتور.

حديثي عن مواطنين بسطاء، ابتهجوا برحيل المستبد الذي أذاقهم من العذاب ألواناً، واكتووا بنار حكمه البغيض، بل إن بعضهم من الشباب الذين شاركوا في الثورة، أو صفقوا وهللوا لها مبتهجين بانتصار الثورة، حالمين بغد أفضل، واعتقدوا أن حياتهم سوف تتحسن، ستختفي البطالة، ويجدون الوظيفة والمسكن ويتزوجون، ويجدون العلاج في المستشفيات والدواء، وتتحسن الخدمات والبنية التحتية وتقام الجسور وتنهض العمارات، وتزدهر الحياة في البلاد، ويختفي الفساد، وتتحقق العدالة ويسود القانون إلخ إلخ، لكن كل هذا الذي حلموا به لم يتحقق، بل تحول إلى كابوس، الأوضاع المعيشية والأمنية راحت تمضي من السيئ إلى الأسوأ، ولم يحدث تحسن في أحوال البلاد والعباد، وتعاظم الفساد والنهب، وانفجرت الصراعات بين الجماعات المتناحرة، الأمر الذي جعلهم يعلنون كفرهم بالثورة، ويعبرون عن حنينهم إلى زمن الأمن والأمان، وأوضاع اقتصادية رغم سوئها لكنها كانت أفضل من الزمن الذي يعيشونه، ويوحي لهم بمستقبل يصيبهم بالقلق كلما فكروا فيه.

هؤلاء الذين راحوا يعلنون حنينهم إلى زمن الديكتاتور، لا يفعلون ذلك حباً في شخصه، بل توقاً إلى الأوضاع الأمنية المستقرة في ذلك العهد، وهو المنجز الوحيد الذي تفلح الأنظمة الديكتاتورية في تحقيقه لشعوبها، فلا تنمية ولا خدمات تقدم للمواطن، لا تعليم ولا علاج ولا طرق، الأمر الذي جعل بعض المستبدين في المنطقة يخيفون شعوبهم، ويهددونهم بالمصير الذي ينتظرهم وينتظر البلاد في حال ثار الشعب ضده، فأعلن بعضهم في 2011: إما أنا أو الحرب الأهلية، فهو يعلم أنه لم يترك دولة ولا مؤسسات خلفه، وأنه برحيله سينهار كل شيء ويصير خراباً.

غير أن منطق الحنين إلى الدكتاتور، وإلى الأوضاع المستقرة التي كانت سائدة في عهده، يتجاهل أن النظام الدكتاتوري يحمل بذرة سقوطه في داخله، وسقوطه يقود إلى فوضى طويلة الأمد، وأن الاستقرار الذي يصنعه هو استقرار زائف، وموقت، وإن طال عقودا من الزمن، لأنه لا يقوم على مؤسسات سياسية راسخة، فما هو سوى نظام قمعي، يعتمد على أجهزة أمنية مهمتها إجبار المواطنين على الصمت والإذعان لسلطة متعفنة من الداخل، ومهيأة للسقوط، وبالتالي فإن اللجوء إلى دكتاتور جديد بعد التخلص من الدكتاتور السابق يعني العودة إلى المربع الأول، العودة لنظام يفتقد القدرة على الاستمرار، فلقد ثبت من تجارب عديدة عبر التاريخ في العالم العربي، وفي بقية دول العالم، أن استقالة الأنظمة المستبدة من واجباتها الخدمية والتنموية واكتفائها -كما تفعل دائماً- بالوظيفة الأمنية، لا يحميها من الانهيار الناجم عن تفاقم الأزمات التي تشحن الصدور بالغضب، وتنذر بالانفجار في أول فرصة، وهذا ما جرى في أكثر من بلد عربي العام 2011، وهذا أيضاً ما سيجري مع أي شعب يسعى إلى استبدال الدكتاتور السابق بدكتاتور جديد. والشعوب التي لا تتعلم من تجاربها المريرة، وتجارب الشعوب الأخرى عبر التاريخ، ترتكب أخطاء فادحة في حق أجيالها الحالية وفي حق أجيالها القادمة، وتظل تتخبط في متاهة التخلف، أسيرة لدوامة العنف والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصراعات والحروب الأهلية.

والملاحظ أن البلدان العربية التي جرت فيها الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية تمر بمرحلة انتقال طويل وقاس باتجاه بناء الدولة الديموقراطية، وقد توهم الكثيرون أن هذا الهدف سيتحقق عقب سقوط الدكتاتور مباشرة، ثم تبين أن هذا ليس بالأمر الهين في ظل غياب كامل للدولة، فهذه الأنظمة المنهارة لم تبن دولاً، بل أنظمة تسلطية، علاوة على عوائق أخرى تحول دون بناء الدولة، في مقدمتها الصراع على السلطة بين القوى السياسية في بعض البلدان العربية، وهذا يقودنا إلى الدور السلبي للنخب السياسية التي جاءت عقب سقوط الأنظمة الاستبدادية، وأثبتت فشلها في الاتفاق على وضع قواعد الانتقال السلمي الديموقراطي للسلطة، ومارست الإقصاء ضد بعضها البعض، وبالتالي فإن هذه النخب تتحمل جزءاً كبيراً من الفشل الذي منيت به الثورات عقب 2011، كما أن التدخلات الإقليمية التي دعمت الثورة المضادة خشية امتداد لهيب الثورة إليها كان لها الدور الكبير في صناعة الفشل الذي منيت به الثورات، إضافة إلى عودة حكم الاستبداد في بعض بلدان الربيع العربي، لكن هذا لا يعني أن الثورة المضادة انتصرت، رغم كل ما يمكن أن يقال حول الأزمات المتفاقمة في بلدان الربيع العربي، فهذا مخاض ديموقراطي عسير وطويل، إضافة إلى أنه يختلف من بلد إلى آخر حسب التجربة التاريخية والأوضاع الداخلية في كل بلد من بلدان الربيع العربي، ومدى استعداد النخب فيه لحل المشكلات وتجاوز السلبيات والأخطاء التي مرت بها في السابق، وأيضاً له علاقة بالمتغيرات الإقليمية والدولية في المنطقة والعالم.

الثورات اليوم، كما يقول حازم صاغية في كتابه «الانهيار المديد...الخلفية التاريخية لانتفاضات الشرق الأوسط»: «هي فرصة المجتمعات العربية لمبارحة موديلنا التاريخي المسنود بأيديولوجيا شعبية جامعة بين الحاكم والمحكوم لحمتُها العداء «للغرب» والغريب. وأغلب الظن أن بلوغ الانحطاط حد التوريث الجمهوري كان شرطاً لانفكاك تلك الأيديولوجيا الجامعة واكتشاف الخديعة التي تقف وراءها».