Atwasat

تأملات في العود الأبدي

عمر الكدي الإثنين 05 يونيو 2023, 01:02 مساء
عمر الكدي

تعود فكرة العود الأبدي إلى قرون سحيقة وتبناها بعض فلاسفة اليونان مثل هيرقليطس وديمقريطس، كما كانت ولا تزال الفكرة الأساسية في الديانتين الهندوسية والبوذية اللتين لا تؤمنان بالبعث واليوم الآخر والجنة والنار، وإنما تؤكدان أنه بعد وفاة الإنسان يفنى جسده، وتعود روحه لتتقمص مخلوقا آخر قد يكون إنسانا أو حيوانا أو نباتا، وسعادته في الحياة التالية تعتمد على مدى ما فعل من خير في حياته السابقة.
بينما ترى الديانات التوحيدية وقبلها الديانات في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين أن الإنسان بعد الموت ينتقل إلى حياة أخرى أبدية، سواء كانت فردوسا أو جحيما، والثواب والعقاب سيتحدد على مدى امتثال الإنسان لتعاليم الدين، وحتى بين الفرق الإسلامية يؤمن الدروز بتناسخ الأرواح والعود الأبدي.

الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه أعطى للعود الأبدي مفهوما جديدا، ولكنه يتناقض مع فلسفته التي بلورها حول موت الإله والإنسان الأعلى وإرادة القوة، ففي نظرية العود الأبدي كما جاءت في كتابيه «العلم المرح»، و«هكذا تكلم زرادشت» ثمة حتمية جبرية، فكل ما حدث من قبل ويحدث الآن سيتكرر بالطريقة نفسها إلى الأبد، ومن أكثر أفكاره رعبا أن الكون نشأ بعد الانفجار الكبير قبل 15 مليار سنة، من مادة شديدة الكثافة محجوزة في حيز ضيق قد يكون في حجم حبة خردل، وحتى الآن لا يزال يتمدد ولكن في لحظة ما سيعود إلى الانحسار والانكماش، لتعود المادة إلى حبة الخردل ثم تنفجر من جديد، وبعد مليارات السنين ستتشكل الحياة على أحد الكواكب أو أكثر، ثم تظهر مخلوقات بدائية تتطور إلى إنسان عاقل، وتظهر أمم وشعوب تتقاتل بسبب اختلاف الأديان أو القوميات أو الطوائف أو المذاهب، ولا يستبعد نيتشه أن هذا السيناريو فعلا حدث مرات لا تحصى من قبل وسيتكرر أيضا، والأشد رعبا أن عالم الفيزياء الفلكية ستيفن هوكنغ رجح أن الكون الذي لا يزال يتمدد سينحسر لينفجر مرة أخرى.

أي سيناريو مرعب هذا السيناريو أي بعد فناء الكون نعود مرة أخرى إلى ليبيا، ويظهر الأخ القائد ليحكمك 42 عاما، ثم يأتي هؤلاء المشوهون ليحكموك ما تبقى من عمرك. في الحقيقة هذا ما يحدث بالضبط فكل ما جرى منذ 1500 سنة يتكرر بالوتيرة نفسها. الطغاة أنفسهم الذين ظهروا منذ الدولة الأموية يعودون مرة أخرى بملابس مختلفة، ولكن بالعقلية نفسها وأحيانا ينطقون الألفاظ ذاتها، وكأننا في مسرحية عبثية من مسرحيات يونسكو وصموئيل بكت، ما الفرق مثلا بين الفقهاء الذين ظهروا في العصر الأموي والعباسي وفقهاء هذه الأيام، ربما كان الفقهاء القدماء منسجمين مع عصرهم، أما فقهاء اليوم فيعودون إلى هناك لإيجاد حلول لمشاكل القرن الحادي والعشرين، فكل شيء قاله القدماء ولا حاجة للاجتهاد، والغريب أن الصراع بين المرجئة الذين يؤمنون بأن الإنسان مسير وليس مخيرا يتفقون مع حتمية نيتشه وهوكنغ، بينما يخسر المعتزلة معركة أخرى باعتبارهم يؤمنون بأن الإنسان مخير وإلا فإن الله غير عادل عندما يحاسبه على أفعال لم يخترها، هل عقل نيتشه الجبار الذي فكك أسس الديانة المسيحية، وفضح أخلاق «العبيد» خانه في آخر حياته؟ أم أنه حاول أن يؤسس لميتافيزيقيا علمية تحل محل الدين، وإن أفضت إلى حتمية جبرية؟ ربما يكون جنون نيتشه هو الجواب على هذه الأسئلة الشائكة التي تدفع الإنسان إلى عدم الاطمئنان وتعيده إلى حضن الفقهاء مستسلما. صحيح كما يقول العالم الفرنسي لافوازيه إن المادة لا تفنى ولا تستحدث ولا تخلق من عدم، وبالتالي فإن أجسادنا بعد الوفاة ستتحلل للعناصر الأولى التي خلقت منها، والتي ستندمج في دورة الطبيعة لتمتصها النباتات والتي تتغذى عليها الحيوانات، وبهذا المعنى فهناك عود أبدي، إما أن نعود فنجد أنفسنا مرة أخرى في ليبيا نستمع مرة لعقيلة صالح بنفس الشنة والدبيبة بنفس الوجه الطفولي، وحفتر وهو يقول حانت ساعة الصفر، ونوري بوسهمين وهو يقول لن تهزم ثورة يقودها نوري أبوسهمين، أو صقر الجروشي وهو يقول «أنتم تعلمون ونحن لا نعلمون»، فإنني شخصيا أفضل أن أعود إلى حبة الخردل راجيا ألا يحدث الانفجار الكبير مرة أخرى.

إذا كان الكون كله يعود عودة حتمية تكررت عدة مرات، فإن العرب والمسلمين يعودون إلى ذلك التراث دون أن يستطيعوا التحرر من جاذبيته المرعبة، بسبب التحالف بين السلطة السياسية والسلطة الدينية وخضوع الجماهير لأخلاق العبيد كما وصفها نيتشه، والربيع العربي علمنا أنه لا يكفي للتخلص من رأس النظام للتخلص من النظام كله، ففي أول انتخابات ديمقراطية فاز الإسلاميون ماعدا في ليبيا، والإسلاميون لو لم يتعلموا من النتائج الوخيمة للربيع العربي الذي لم يسهموا فيه، يعودون إلى نظام الخلافة وإلى الفقهاء نفسهم، فخلال الثورة الليبية برز اسم الصادق الغرياني كمفتٍ للثورة، وهو اليوم أحد أطراف الأزمة المستحكمة، ولا مفر من إعادة كل هؤلاء إلى العصر الذي جاءوا منه بأكبر قدر من التبجيل.