طاحونة الشيء المعتاد
بعدما قدمت عددا من التشكيليين الليبيين، ثم ألحقت بهم مجموعة أخرى من جمهورية مصر العربية، رأيت أن أستمر مستعرضا فنانين من العالم العربي كله، فاتجهت إلى تونس، ما أن شرعت في البحث، حتى شدني عنوان مقالة عن الفن التشكيلي التونسي، للدكتور فاتح بن عامر، وهو أستاذ مساعد بالمعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة، عنوانها: «الفن التشكيلي التونسي تاريخه، واقعه وآفاقه وطاحونة الشيء المعتاد».

 باقة تبرز إبداع أخوتنا في تونس
انتبهت «طاحونة الشيء المعتاد» هو عنوان أحد كتب الأديب الليبي الراحل عبدالله القويري القيمة، وهو عدد من مقالات قدمها مؤكدا أنها «مقالات غاضبة تكاد تشتعل النار في كلماتها. لم تكتب على مهل، وفي ضوء مصباح أخضر، ولكنها كتبت وضجيج المطبعة يضرب أذني، وتخبط مجتمعي يدك أعماقي. غامت الرؤية أمام المثقفين، وأخذت جميع القطاعات حالة من السعار، ذهلوا فيها عن أنفسهم، وعن الدنيا من حولهم. فقد وطني كل صوت صادق، ونزل على النفوس المتيقظة كلكل من اليأس. لم يعد هناك من طريق، أو أن أي إنسان لم يعد يرى طريقا للخلاص. كنت كمن يصرخ في صحراء ولا أحد يسمعني، وربما إذا كان هناك من يسمعني، فلن يكون جوابه غير السخرية مني! أكاد أقول أن كل كلمة هي قطرة من دمي، فالحياة التى كنت أعيشها في تلك الفترة لم تمكني من شيء، غير أن أنزف على مهل». هذه المقالات كتبها سنة 1968. والمصادفة أنني ما أن شرعت في بحثي وانتقائي لمن يشكلون باقة تبرز إبداع أخوتنا في تونس، حتى وجدتني مشدودا لمصادفة عجيبة أخرى وهي فنانة شابة، اسمها نجاة بامري، تحدت هي الأخرى إعاقتها وأبدعت فنا تشكيليا نقذته مستخدمة فمها للإمساك بالريشة، تماما مثلما نفذت فنانة ليبية، هي أيضا تحدت إعاقتها، وأبدعت لوحات بديعة هي الفنانة التشكيلية الليبية زهرة البيباص ترسم، أيضا، ممسكة فرشتها بأسنانها. تقول الفنانة نجاة في مقابلة لها مع «السكاي نيوز»: «بدأت الرسم منذ سن الرابعة، كان الأمر محض صدفة في البداية عندما وجدت قلما أمامها، فأمسكته بفمها وانطلقت تخط على الأوراق، وعند عودة أمي وقعت على تلك الخطوط المتناغمة». وتستطرد: «بدأ حبي للرسم يكبر وكنت أخصص كل وقتي لأمسك قلما أو ريشة وأرسم ما يحمله خيالي، أو ما أشاهده من المعمار التونسي والمناظر الطبيعية». وترى الفنانة التشكيلية أنها وجدت في الرسم أفضل طريق لتتحدى إعاقتها وتعوض حرمانها، إذ تقول: «أشعر بأن لوحاتي مليئة بالحركة والحياة، الحركة التي حرمت منها في حياتي أراها في تلك الإبداعات التي أصنعها بريشتي وبفمي»، وتستطرد: «لا أريد أن أشاهد ملامح الشفقة نحوي في عيون الناس. تحديت إعاقتي، وأعتقد أني نجحت في أن أمنح حياتي لونا زاهيا مثل معظم اللوحات التي أرسمها».

الفن واحدا والمعاناة واحدة
وهكذا نرى الفن واحدا والمعاناة واحدة ما بين بلادنا والشقيقة تونس، فهل الشيء المعتاد أيضا، يصل التوافق حد مشاركتنا في حالة نادرة، قلما نراها في الدولة الواحدة. وشاركت نجاة بامري في عدد كبير من المعارض في تونس وخارجها، وآخرها العام 2018 عندما أقامت معارض تشكيلية في عدد من المدن الجزائرية ونالت استحسان النقاد والزائرين وهواة الفن التشكيلي هناك.

الإعاقة لا يمكن أن تكون حاجزا أمام الإبداع
وترى الفنانة التي كرمها الرئيس التونسي قيس سعيّد، لمناسبة العيد الوطني للمرأة «أن الإعاقة لا يمكن أن تكون حاجزا أمام الإبداع، وأن الإرادة والعزيمة هما السلاح الذي يجعلها تتحدى إعاقتها وتصقل موهبتها» وهذا ما أكدته الفنانة الليبية أيضا في معرض حديثها عن فنها وموهبتها. الشيء الرائع هي أنها نفذت أكثر من مائة لوحة فنية حتى الآن، باعت الكثير منها، لتعول أسرتها، فهي زوجة وأم لبنت عمرها 10 سنوات. هناك الكثير مما يستحق إعادة نشرة من حوارات مع هذه الفنانة، لخصنا منها ما يثري معلوماتنا عنها.

الفنانة الليبية زهرة البيباص