Atwasat

القاص الليبي حمودة: «ريفا سامحينا.. ريفا اعذرينا»

القاهرة - «بوابة الوسط» لينا العماري الأحد 07 سبتمبر 2014, 11:45 صباحا
WTV_Frequency

مصطفى حمودة شاب صحفي وقاصٌ ليبي من مدينة الزاوية، من الكُتَّاب الشغوفين بالموثولوجيا والقصص الرومانسية التي تحمل إسقاطات عن واقع الشباب الاجتماعي أكثر منه السياسي. بيد أنّ نصوصه الأولى كانت تبحث عن نفسها في دوامة القصص، تائهة في اضطراب وهدوء شخوصها، لكنه اجتهد في تثبيت نمط يخصه ويميز قصصه عن غيره من الشباب .

وقد وُجدت لحمودة وجهة نظر خاصة في القصة القصيرة التي هي بعنوان: «نافورة الطهر» .

«وهو يهبط الطريق ألف على جانبيه تماثيل عتيقة تصطفّ لجنودٍ وملوكٍ يُعتبرون رموزًا من رموز مدينة (ريفا) ، وبينما همّ «تاجٌ» ليسلُك الطريق المتفرّع منه والذي بدا له عامرًا ومن شأنه أن يؤدي به إلى السوق، وجد أناسًا يندفعون كالسيل نحو مكان ما يفضي له الطريقُ الذي يعجّ بالتماثيل.
الكل كان حينها يسير في اتجاه واحد عكس الاتجاه الذي يسلكه هو، وكانت أيديهم تحوي ورودًا حمراء، وللوهلة الأولى استغرب «تاجٌ» الأمر، وألح عليه فضوله للذهاب في طريقهم، ومن علامات وجوههم أحسّ بأنّهم يسيرون في مراسم تشييع لجنازة!.

وما إن أخذ في التقدّم حتى بانت له مدارج عملاقة في تلك الساحة، الساحة المقابلة لقصر ملك ريفا.. شدّ انتباهه منظر تمثال لفتاة بدت له وكأنها أميرة، وما جعله يتأكد من كونها كذلك التاج الذي يتوّج رأسها وفستان الزفاف الأبيض الذي لا تملكه سوى سيّدات المماليك الراقيات، لقد كانت معلقةً في الهواء، ماددةً بيدها اليمنى إلى السماء، أما الأخرى فقد كانت باتجاه الأرض، وقف مندهشًا غير مصدقٍ لما رأته عيناه، ولعلّ الغرابة ارتسمت على تعابير وجهه عندما رأى الناس يحنون القبعات لها.

شعر حينها بأن الانحناء واجبٌ عليه، وتعمق هذا الشعور عندما بدأ الحشد المتجمّهر أمام التمثال يرمقه بنظرات أحسّ بأنها نظرات حيرة واستغراب.
انتهى الحشد من تحيّتها على طريقتهم بأن قاموا بتقبيل يدها القريبة من الأرض، واضعين ما في جعبتهم من ورود جلبوها خصيصًا لها، انصرف الواحد منهم تلو الآخر والدموع تنهمر من أعينهم وهم يردّدون: «ريفا سامحينا.. (ريفا) اعذرينا».

وإذا بالفضول يدفع تاج لسؤال أقرب الأشخاص إليه -ممَن استراحت نفسه له- عمّا يدور مِن حوله، وعن سرّ هذا التمثال المعلّق، ولِم سُميّ على اسم المدينة؟
ولمّا سأل، لم يجد إجابة تشبع فضوله، بل إن الرجل لم يتفوّه بكلمة واحدة.

جنَّ الليل وأدركه الوقت، فلم يستطع العودة إلى قريته، قادته قدماه لا إراديًّا إلى الساحة ذاتها، حيث يوجد التمثال، وفي طريقه إليها وجد بستان ورد به وردة بيضاء أثارت في نفسه شيئًا ما.. فتساءل: ألم يكن كل الورد أحمر؟!.. فمن أين أتت الوردة البيضاء؟.. بدأ الحشد ينصرف حتى إذا تركوه بمفرده، ظل يتأمّل تمثال الفتاة التي يقدّسها أهالي المدينة، انصرف بعد لحظاتٍ محاولاً إيجاد تفسيرٍ لهذا السرّ الذي حيّر عقله، أخذ يتجوّل في أرجاء المدينة باحثًا عمَّن يُعلمه بأمرها، لكن استفساراته قوبلت باللامبالاة.

قطفها تاج واتجه مباشرة نحو التمثال، ففعل ما كان يفعله أهالي البلدة الذين رآهم في صباح اليوم ذاته، وما أن انحنى مقتربًا من يدها ليقبّلها، متحسّسًا بيده يدها، سرت في جسدها موجة من الشحنات انبعثت من أعماقه، بدأ يحسّ بشيء يجذبه نحوها، كان توّاقًا للارتماء في حضنها، ليس لشيء سوى لأنه أحسّ برغبةٍ عارمة في البكاء، بدأت تتوسل إليه قائلة في صمت:
- أعطنيَ الزهرة.. أعطنيها أرجوك.. (لكن نداءها ليس ذا جدوى، لأنه لم ولن يسمعها) أخذ يتأمل يدها جيدًا ويتحسّسها مجدّدًا.. ويقول:
- وكأن يدها الموجّهة إلى السماء تمدّها لشخصٍ ما ليقوم باصطحابها معه إلى السماء، أما الموجّهة للأرض فتبدو متشنّجة وكأن أحدًا ما يقوم بسحبها لمنعها من المغادرة..
أو ربما هي أرادت اللحاق بالشخصٍ، وفي الوقت نفسه تمدّ يدها لتأخذ شيئًا ما معها.
«هكذا كانت ترتسم صورة الملكة في مخيلّة تاج أواخر حياتها»..

قالت:
- أجل إنني بحاجة إلى تلك الزهرة أعطنيها بسرعة.
فقال وهو ينظر إلى عينيها مع أنه لم يسمعها:
- لن أستطيع فعل أي شيء لكِ أعذريني.
- أرجوك ساعدني.
- لكنني سأعطيك هذه الزهرة وهي أقصى ما أستطيع فعله لكِ، لأنني لا أعلم ما الذي أنت بحاجة إليه!!

وما أن امتدت يده بالوردة ووضعها في يدها حتى ارتمى بين ذراعيها وبدأت تنهمر دموعه من عينيه، فابتلت المرأة التمثال، وبدأت تهتز بعنف في الهواء، حتى أرعدت السماء، وانبثق من الليل برق ورعد وعواصف..
وفجأة..

صُعق تاج وارتمى أرضًا من شدّة الصدمة، مخفي بيديه وجهه ليحمي نفسه من الوميض القوي الذي أبهر عينيه، والذي شعر وكأن سيفًا ينغرس في صدره، لم يكن في مقدوره النهوض وتفادي المطر، فقد تصلّبت أطرافه، وشعر بتقلص في جسده وبشيء ما بداخله يكاد يمزّقه وكأن هذا الشيء يرتدي جسده..
يلمح وميضًا يحلق آتٍ من السماء؛ آخذٌ في الكبر شيئًا فشيئًا متجهًا صوب التمثال، أبهر بصر «تاج» في الوقت الذي تشكّل على هيئة ملاكٍ بجناحين من نور، لتعود ريفا كما كانت آدمية، فيأخذها الملاك من يديها ليغسلها في نافورة المدينة المجاورة، ثم حملها معه إلى السماء، وهي تبكي مناديةً:

- ولدي «تاج» سأودّعك اليوم وأنا مطمئنة أنك قد أصبحت يافعًا، كن إنسانًا صالحًا وازرع الخير في كل أرجاء الأرض، وداعًا.. سأراك في العالم الآخر، إلى لقاء قريب يجمعنا.. لن تفرقنا الحياة بعده.. وداعًا بني.
(كانت ترددها بألم والدموع تنهمر من عينيها)، وهي والملاك يبتعدان رويدًا رويدًا حتى صارا نجمة من نجوم السماء، وتاج يبكي لأنه لم يهنأ بأمه التي حرمه القدر من رؤيتها منذ أن فُتحت عيناه على الدنيا، وحزن لأنها لم تمرّر يدها على رأسه الذي طالما كان يشتاق ليديها الحانيتين، ويشتاق لحنانها وحضن لطالما افتقد دفأه.

ومنذ ذلك اليوم وتاج يسمّي تلك النافورة (بنافورة الطهر)، والتي صار كل مَن يغسل فيها وجهه يعود إلى ريعان شبابه وكل مَن يشرب منها تنقى نفسه من أدرانها للأبد، ويصبح بشرًا خالدًا صافي النفس، نقيّ السريرة، لا يراه سوى من أبلى جسده إلى ما فيه خير الناس وسعادتهم " .

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
باكورة إصدارات «غسوف»: رواية ورياضة وتراث
باكورة إصدارات «غسوف»: رواية ورياضة وتراث
مصر «ضيف شرف» ومحفوظ «الشخصية المحورية» في معرض أبوظبي للكتاب «33»
مصر «ضيف شرف» ومحفوظ «الشخصية المحورية» في معرض أبوظبي للكتاب ...
سيلين ديون تتحدث لأول مرة منذ إعلان إصابتها بمرض نادر
سيلين ديون تتحدث لأول مرة منذ إعلان إصابتها بمرض نادر
لوحة غامضة المصدر لغوستاف كليمت تُطرح للبيع ضمن مزاد في فيينا
لوحة غامضة المصدر لغوستاف كليمت تُطرح للبيع ضمن مزاد في فيينا
جيراك يكرر إفادته والمدعي العام يعتبرها «ملتبسة»
جيراك يكرر إفادته والمدعي العام يعتبرها «ملتبسة»
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم