منذ أن وصلت إلى بنغازي مبتهجًا بزوجة عدتُ بها تحمل أول أبنائي، بدأت متاعب كادت تقف حائلاً دون تخرجي، فلقد اعتمدت قبل سفري على صديق ينهي لي إجراءات شقة وافق أصحابها من حيث المبدأ على تأجيرها ولكنهم لم يفعلوا، فظلت زوجتي في بيت أهلها، وظللتُ عند سي عقيلة. كان قانون يحدد قيمة الإيجارات قد أُعلن، وصار من الصعب أن تجد مَن يؤجر لك سكنًا ما لم يكن يعرفك. ولكن الأمر بالنسبة لي لم يطل حتى علمت أن شقة خالية بعمارة الدكتور وهبي البوري التي كنت أتردد عليها كثيرًا لأن أستاذين من قسم اللغة الإنجليزية كانا يسكنان بها، وكانت علاقتي ببوابها جيدة وهو الذي أخبرني عنها.
كنتُ قد قابلت الدكتور وهبي البوري في الأمم المتحدة، فلقد كان أثناء زيارتنا نيويورك هو مندوب ليبيا الدائم، ولقد استقبلنا كوفد بمكتبه ولم يبخل علينا بالمعلومات اللازمة التي سهلت مهمتنا. ولما طرقتُ بابه رحَّب بي، وقدم لي القهوة، فأخبرته بحاجتي للشقة، وذكَّرته بأننا قد تقابلنا في نيويورك، وأخشى أن يكون قد نساني، وتبسم حينها وقال مازحًا: «وكيف أنساك، والطائرة التي وصلت بها كانت تحمل قرار إنهاء مهمتي هناك والعودة إلى هنا..»، وعندها قلت في نفسي: «ضاعت الشقة..»، خصوصًا بعدما نهض وخرج من صالون استضافتي، ولكنه عاد يحمل مفتاحًا وأعطاه لي، وأخبرني بأن الشقة كان محتفظًا بها لتكون مكتبًا له، ولكنه يرى أننى أولى بها، وخرجنا معًا وكانت الشقة أمام بيته مباشرة. فتح الباب وقال لي: «تستطيع أن تقضي هذه الليلة بها لو شئت..».
كانت والشهادة لله جاهزة تمامًا، وعندما سألته عن الإيجار قال لي: «لقد قرروا لها 51 جنيهًا ولك أن تدفعها عندما تتوفر إليك..».
كان ذلك أمرًا يندر حدوثه في تلك الأيام. ظل نعم الجار طوال ثماني سنوات إلى أن فرَّج الله وتمكنت من بناء بيت احتوى كل أسرة سي عقيلة ولا أعتقد أن أحدًا منهم غمرته الفرحة التي غمرتني، فلقد كانت تلك أول ليلة أنامها هانئًا بعد خمسة وثلاثين عامًا من دون أن أفكر في إيجارها.
كانت السنتان الأخيرتان في دراستي الجامعية، صعبتين للغاية، بسبب تشتتي أولاً ما بين الكثير من المشاريع ومحاولتي المتصلة لإيجاد سبل لكسب ما يعينني على مواصلة الحياة. لم يكن هناك عمل ثابت وإنما فرص من هنا وهناك.
استفدت كثيرًا من الدورة الدراسية التي أتممناها في اسكوتلاندا، وعدت مفلسًا مع زوجة حامل. وما كنت لأجتاز السنتين الثالثة والرابعة، لولا مساعدة مجموعة دفعتي، فلقد تناوبوا على تلخيص ما يفوتني وشرح ما يستعصي علي. ولعل صديقي مصطفى الرايس المعروف بحرصه الشديدة على مذكراته، التي لم يُرها أو يعرها لأحد طوال سنوات دراستنا لم يبخل بها علي أبدًا. وكذلك السيدة آمال التاجوري، حسن الهنتاتي، فتح الله خليفة، سعد سلطان، محمد فرج البرعصي، وبالطبع عبد المجيد الدرسي. كانتا سنتان كبيستان، ابتدأتهما من دون سكن، مشتتًا ما بين عمل إضافي كنت أحتاجه إلى جانب محل البقالة. وعلى الرغم من حصولي على بما يفي بحاجتي، إلا أن طبيعته كانت تحول دون حضور منتظم لقسم يشترط التفرغ.
كنت أزور، بين حين وآخر، عثمان المقوب، الذي كان يعمل بوكالة السيد الفاضل حامد الحضيري للتوكيلات التجارية بالفترة المسائية، ولقد تواصل هذا النشاط التجاري لسنوات من بعد قيام ثورة سبتمبر، إلى أن أُممت التجارة في ليبيا وأُقفلت هذه الوكالات. تخلقت بيني وبين السيد حامد صداقة، وما أن علم بوضعي حتى اقترح علي أن أعمل معه في الوكالة، التي كانت اللغة الإنجليزية مهمة في مزاولة أعمالها.
رحب السيد حامد بانظمامي إلى وكالته، والشهادة لله أنه كان فاضلاً بالمقاييس كلها؛ لم يبخل لا علي ولا على عثمان لا بالمال ولا المساعدة والأهم بالمعلومة، فلقد كان بالنسبة لي شخصيًّا أستاذًا، تعلمت منه الكثير مما أفادني في حياتي فيما بعد. فضلة علي كبير، وأنا أعلم أن هذا لم يقتصر عليّ فقط بل على كل مَن عمل معه. لقد تحمل كثيرًا من نزقي ورعونتي ولا أذكر أنه رفض لي طلبًا، ثم توَّج علاقته بنا بتخصيص بعض من الشركات التي تعمل معه وموَّل مكتبًا لنا تأسس في شارع مصراتة وبدأنا نعمل من خلاله، كان بالفعل شريكًا، ولكنني لا أذكر أننا استقطعنا له شيئًا مما كسبنا، بل ولا أذكر إن كان قد تسلم حتى تكاليف إقامة المكتب. ومع ذلك تغاضى عمن تنكروا لجمائله، أنا لا أملك إلا أن أبتهل أن يحتسبها الله له في ميزان حسناته.
ومن بعد أن تفرغنا لمكتبنا الجديد، أوصيت له بصديقي محمد خليفة الترهوني، وكذلك بصديقي إبراهيم سعد الربع، الذي لم يستمر طويلاً معه بسبب «غفوة العشية»، التي أعترف لي بضرورتها. وظل محمد الترهوني ساعده الأيمن إلى أن تأممت الوكالات التجارية.
وولولا مساعدة أستاذي حامد عبد الجليل الحضيري لما تمكنت من إتمام السنتين الأخريتين، فقد كان يدفعني لترك ما بيدي من عمل يدفع لي أتعابه لحضور محاضرة يعرف أنها مهمة، ولقد كان بالمناسبة طالبًا منتسبًا بالكلية ذاتها، وما زلت أذكر السيارة الـ«فولكس» الحمراء التي كانت مخصصة للمكتب والتي باعها لي بالتقسيط، ثم سامحني في بقية أقساطها. كان مثاليًّا في تعامله مع الناس كافة، خيِّرًا، نظيفًا وعفيفًا، فبعد أن تأممت التجارة بالكامل انتقاه بلقاسم شميسة مدير عام شركة الملابس الأهلية العامة ليكون مديرًا تجاريًّا لها. لم يتشوه السيد حامد الحضيري ولم يستغل خبرته في السلعة ومعرفته الواسعة لوكالات العمولة، باعتبار أنها كانت تخصصه. وعلى الرغم من علاقاته المتعددة مع شركات عالمية، إلا أنه لم يستغلها بعدما وصلت معاملاتها إلى عقود ضخمة مع الشركات العامة، التي أُثري منها الكثيرون. ولن أنسى مطلقًا بعد سنوات عجاف رَفعت الواطي وبهدلت العالي، يوم جاءني السيد حامد يشتكي من دعوة قضائية ظالمة رفعها عليه مَن كان السيد حامد وراء دعمه وتأسيسه، ولقد وفقني الله في إقناع المدعي وسحب دعواه.
رحم الله حامد عبد الجليل الحضيري، الذي كان تجار ستينات القرن الماضي يعرفون أمانته وصدقه. فضله كثيرٌ علي كمعلم وطني وصديق مخلص وغيور. كان مكتبة مفتوحًا لمجموعة من شباب بنغازي العصاميين الذين اتجهوا إلى التجارة فنجحوا فيها بسبب أمانتهم وصدقهم ومثابرتهم وكان منهم الأخوان حداقة محمد ومحمود والأخوان زايد، ابنا شارع نبوس: عوض وأخوه أمحمد، الذي كان منذ صغره يسعى ليغلب قهر الفقر، كان ينتهز الليالي الرمضانية، بألعاب ومسرحيات مسلية للأطفال، وكانت من ضمن هذه الألعاب: تمثيليات مضحكة، ومسرح كركوز، ثم طوَّر مشروعه بمحل لتأجير الدراجات للأطفال ثم لينتقل إلى ميدان سوق الحوت، ومن هناك انطلق إلى التجارة والاستيراد والتصدير، وكان حامد وكيله. واستمر في نشاطه حتى وصل أمره إلى تكوين شركة مقاولة في مصر ساهمت في إنشاء مدرجات مطار القاهرة. ثم كان حريصًا على تعليم أخوته فصار منهم اثنان من أبرز أطباء ليبيا. سالم النواع أيضًا من رجال تلك المرحلة الذي تخصص في التخليص الجمركي والملاحة فصار قطبًا من أقطابها في ليبيا، المصادفة أنهم من جيل صادق النيهوم وخليفة الفاخري ومحمد مصطفى الفرجاني، المعروف في سوق الحشيش «الشيخ الفيتوري» أحد مثقفي ذلك الجيل المتميز ومحمد وعبد القادر البعباع، وأبريك الأشهب وأرحيمة الجازوي، ومن سوق الحشيش المتصل بشارع سي علي الوحيشي من الشمال وبشارع نبوس وشمسة من الغرب. كان عديد شباب سوق الحشيش، في ذلك الزمن الجميل مثلاً أعلى لشباب المنطقة كافة، وإن صار بعد منتصف ستينات القرن الماضي صادق النيهوم وخليفة الفاخري أبرزهم بسبب كتاباتهما في جريدة «الحقيقة».
تعليقات