عندما كتب هـ. ج. ويلز في العام 1895م روايته من الخيال العلمي «آلة الزمن»، عرض على قرائه افتراضا جديدا مثيرا وآسرا؛ إن الزمان ليس أكثر من بعد رابع للمكان. وما أراد ويلز أن يوحي به هو أن السفر في الزمان ملكة عقلية نمتلكها فعلا، ولكن في نطاق ضيق. ويعلق كولن ويلسون: «ومن ثم فأيا كان ما نعرفه أو ما لا نعرفه عن الزمان، فهناك شيء واحد يبدو مؤكدا: هو أن الفهم المتزايد لقوانا الكامنة يجلب مزيدا من الاستبصار في طبيعة الزمان. وسوف نكتشف أن آلة الزمن التي تخيلها ويلز هي العقل البشري نفسه».
بما يمكن أن يكون، تكون «مفكرة رجل لم يولد»، مفكرة يوسف القويري الصادرة العام 1966م في جريدة الميدان، ثم في كتاب العام 1971 م في طبعته الأولى.
أن يعيش المرء يوما لم يقع بعد، وهذا -على ما أظن- هو ما يمكن أن يوصف بأنه سفر في الزمان، بهذا المعنى يوسف القويري يكتب العام 1965 م مفكرته للعام 2565 م.
ويكون «من مفكرة رجل لم يولد»، أول استخدام في الأدب الليبي للخيال والحدس، لأجل استشراف واستكناه المستقبل من خلال معطى العلم. فالنص/الرواية مساقها الخيال العلمي لموضوعها، لأن الأفق الإنساني مسباره العلم المحض. فيما تتخذ البنية السردية من المفكرة أداة السرد، فالمفكرة شكل من أشكال المذكرات أو التقارير العلمية، لتأكيد ذلك المفكرة تحتوي يوميات، بين 7 أكتوبر 2565 ميلادية و17 أغسطس 2567 ميلادية، وتحتوي على مذكرات 73 يوما تقريبا.
كذلك يمكن ملاحظة أن لغة التقرير هي لغة هذا النص، فيما الحدث الرئيس يرتكز على حوار بين زوج وزوجته، في بيت من بيوتات المستقبل التي لا تزخر فحسب بمقدرات علمية تكفل الراحة، ولكن أيضا مشحونة بعواطف مزهرة وعقل متفتح، عينه على الماضي بحس نقدي عالي النبرة، وحتى استعلائي.
وحيث إن كل بنية سردية تتكئ على وقائع، فإن بنية المفكرة تتخذ من الحوار واقعة، لتطرح مجموعة من المفاهيم الإنسانوية التي مرتكزها العلم، «العلم الطبيعي هو الطاقة المحركة للتاريخ الإنساني، وإن الفكر والقيم كانا دائما تعبيرات ثانوية لاحقة لحصيلة المجتمع من العلوم في أي مكان وزمان»، كما سيؤكد محمد المفتي على هذا الخطاب العلموي، بعد عقود أربعة من صدور مفكرة يوسف القويري. فيما ستكون أطروحة الدكتور نجيب الحصادي على الضد من ذلك :«يظل التبجيل الذي يحظى به العلم – قدر ما تظل الثقة المطلقة في أحكامه – موضعا ملائما للتشكيك».
لقد كتبت هذه الرواية ونشرت على شكل عمود صحفي، في ستينيات القرن العشرين، حيث سيطرت أحلام كبرى في التقدم الاجتماعي والتطور العلمي، ما أعقب غزو الدولة السوفيتية الاشتراكية الفضاء، فيما كان المد القومي العربي يشكل يوتوبيا نهضوية جديدة متميزة. ومن هذا جاء الحس التعليمي المدسوس في النص والنظرة الإنسانوية الغالبة، واتخذ النص الروائي مسلكا سردويا حواريا.
كما أن النص على تماس مباشر بالمدرسة النقدية الواقعية، التي سادت تلكم المرحلة، وإذ ذاك اتخذت هذه المدرسة روحا تبشيرية بعالم جديد يسوده العلم. وكانت الرواية كناثر للواقع هي الجنس الجديد، أداة المرسل لرسالته النبوئية، فـ«الرواية كقصة خيالية نثرية، تحاول تصوير أو توضيح التجربة والسلوك الإنسانيين، ضمن الحدود التي تفرضها واسطة اللغة وضرورات الشكل، بالاقتراب أكثر ما يمكن مما نفهم أنه الحقيقة الواقعية».
وبالنسبة ليوسف القويري فإن رواية الخيال العلمي هي الرواية، لأنه أولا وأخيرا المعلم والمبشر بالنبي الجديد العلم، فـ«التوجيه هو البعد الثالث في كتابات سلامة موسي، وهو توجيه محبب وظريف، تشعر أنه يتسرب إليك بهدوء وفطنة، ولا يواجهك بتحد وكبرياء مثلما يصنع المتعالون المزيفون»، هذا ما يقوله عن أستاذ من أساتذته، وهو كلام ينطبق عليه أيضا في جل عمله، ما يفصح عنه نص «من مفكرة رجل لم يولد»، كما يفصح النص عن إطلاع ودراية بالنظريات والبحوث والاكتشافات العلمية، كذلك التوقعات وأحلام العلماء، المنتشرة في تلك الحقبة الزاخرة بالأحلام.
وككل عمل إبداعي فإن عين «من مفكرة رجل لم يولد» على الواقع ويستمد معطياته من هذا الواقع، وهو يرسم يوتوبيا العلم، يضرب من موقعه في المستقبل المفترض، الحاضر الراكد والسائد البليد، الخيال العلمي يفترض عقم الحاضر لذا يستولد المستقبل.
مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»
تعليقات