Atwasat

معضلة العاصمة في ليبيا وحلها في فكر العنيزي

فرج نجم الإثنين 13 فبراير 2023, 05:41 مساء
فرج نجم

شدني حديث الدكتور علي نور الدين العنيزي - أحد فرسان الاستقلال ومؤسس مصرف ليبيا المركزي ورئيس جمعية الفكر الليبية - عندما ذكر شارحاً فكرة العاصمة الجديدة في ثنايا حديثه مع السفير الأمريكي عام 1960م للخروج من ازدواجية وكلفة العاصمة في ليبيا الحديثة، حيث كانت تترنح بين طرابلس وبنغازي في تنافسية وتبادلية عنفوانها انعدام الثقة بين شركاء الوطن. وخير شاهد ما وثّقه الدكتور مجيد خدوري في كتابه "ليبيا الحديثة" ونقله الدكتور وليد شعيب في كتابه الموسوم "علي نور الدين العنيزي ودوره الوطني والسياسي" عندما شرح ما حدث بين الآباء المؤسسين قُبيل إعلان الاستقلال في 24 ديسمبر 1951م، فكتب:

"ومع وجود انقسام حول اختيار العاصمة، فقد حُلت في النهاية، إذ وُضع اقتراحان على بساط البحث: أولهما أن تكون طرابلس وبنغازي عاصمتين للدولة، والثاني أن تكون طرابلس وحدها مقر الحكومة الاتحادية. وكان الأعضاء البرقاويون إلى جانب الاقتراح الأول، بينما أيد الأعضاء الطرابلسيون والفزانيون الاقتراح الثاني، وانتهت المناقشة بقبول الرأي الأول، إذ تمت مشاورات غير رسمية حول الموضوع اشترك فيها الملك المقبل السيد إدريس، والمبعوث الأممي أيدريان بيلت".

وكون الدكتور العنيزي كان في طليعة الرعاة المؤسسين لفكر الدولة المبني على المؤسسة والمواطنة، والمزاوجة بين الأصالة والحداثة التي رأى فيها ليبيا "دولة حديثة في وطن عريق"، وإن كان جريحًا، حتى أنه كان وراء فكرة استعمال المساعدات الأمريكية في إعادة الإعمار عام 1954م إبان حكومة مصطفى بن حليم، ناهيك عن تمتعه بالصفات النادرة لخريجي مدرسة "الإدارة العامة ما بعد الصراعات"، قلما وجدت مجتمعة في غيره: منها النزاهة المطلقة، والكفاءة العالية في شؤون المال والاقتصاد، والمقدرة الفائقة على قول لا، إذا ما اقتضت الضرورة، على حسب وصف مصطفى بن حليم له، الذي لا يقل فكراً ولا هندسة في فقه إدارة الدولة. وبالتالي اقترح العنيزي موقعاً استراتيجياً جديداً، من وحي الجغرافيا ومقتضيات السياسة، وهي منطقة "سلطان" التي تبعد شرق سرت بــ 55كم قبل هراوة، لتكون مقراً للعاصمة الجديدة وسط خليج السدرة، وذلك لتوفر الكمية المناسبة من المياه العذبة، وطقس متوسطي معتدل، توجد بها بقايا آثار الأسلاف، وتتميز بخلوها من الكثافة وبالتالي العصبية القبلية والجهوية، وموقعها البحري مناسب كمكان جيد لإنشاء ميناء بحري.

فتغيير العاصمة ليس بالأمر الجديد على الأمم الحية، ففي صدر الإسلام تغيرت العاصمة من مكة إلى المدينة ثم الكوفة ومن ثم دمشق في بحر 40 سنة، ووطنياً بجانب طرابلس كرابع أقدم عاصمة في العالم - كما كانت الإسكندرية في مصر - تعددت العواصم (الليبية) أيضا، فقد كانت العزيزية عاصمة الجمهورية الطرابلسية، وأجدابيا عاصمة إمارة برقة الأولى، والبيضاء العاصمة الإدارية من 1963م إلى الانقلاب في الفاتح من سبتمبر 1969م، وبنغازي التي دائماً لا تأبى إلا أن تكون عاصمة الدولة والوطن عبر الأزمنة ورغم المحن.

وعالمياً عندما تقاتل الأمريكان في حربهم من أجل الاستقلال صنعوا عاصمة جديدة 1790م، أسموها واشنطن خارج منظومة الاتحاد الذي يضم الولايات الخمسين، الأمر نفسه فعله الروس بالاستقرار على موسكو بدل بطرسبرغ عام 1918م، ثم تبعهم الأتراك باختيار عاصمة المقاومة ضد الاستعمار الأوروبي - أنقرة - بدل إسطنبول التاريخية والروحية للأتراك العثمانيين والطورانيين عام 1923م، كذلك فعلت البرازيل بنقل العاصمة من ريو دي جانيرو إلى برازيليا عام 1957م، وباكستان الإسلامية صنعت عاصمة جديدة أسمتها إسلام أباد بدل كراتشي 1959م، أما كازاخستان فأرادت أن تعيد أمجاد الآستانة بعيداً عن تركيا فبنت عاصمة جديدة اسمتها آستانا بدل آلماتا عام 1997م وهكذا دواليك.

ولهذا الغرض زرت بصحبة الأستاذ علي الحبري الذي أعتبره خليفة الدكتور العنيزي في عمل وفن الإدارة المصرفية من حيث المهنية، وأعتبره مجدداً ومبتكراً في إدارة المال العام، ودعم المصارف التجارية لأجل الاستثمار والتنمية المكانية، فرأينا العاصمة الإدارية في مصر التي بدأت كفكرة عام 1914م، والإبداع في جلب الأموال من خارج موارد الميزانية بالرغم من المعاناة التي يعيشها المواطن "الغلبان" من صعوبة في تحصيل لقمة العيش اليومية لبلد لديه انفجار سكاني (أكثر من 100 مليون) وبين أمواج من اللاستقرار المتلاطمة التي ألمّت بقيادته السياسية وسط صراعات إقليمية على حدوده الشرقية (فلسطين) والغربية (ليبيا) والجنوبية (السودان) والشمالية (إسرائيل وتركيا واليونان) ناهيك عن آثار وباء كورونا ومؤخراً الحرب في أوكرانيا، والمد والجزر داخل مصر حتى أن بعض المعارضين أسموا الفكرة بــ "الفنكوش".

ولكن ما فعلته الجارة مصر فات حدود الخيال ليصبح واقعاً ملموساً عندما بدأت فكرة العاصمة عام 2014م، ولكن لم يبدأ العمل عليها إلا في عام 2017م، والانتقال إليها مع منتصف 2023م. تتربع المدينة العاصمة على مساحة كلية 700كم، أي ما يعادل دولة سنغافورة أو أربعة أضعاف مدينة واشنطن الأمريكية، مع بنية تحتية وفوقية كاملتين من مدن الجيل الرابع؛ والأرض في العاصمة الإدارية صحراوية ذات تربة رملية، خالية من التجمعات السكانية، لا يوجد بها أنهار أو وديان.

وحسب جداول الخطط المصرية سيتم نقل مقرات رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، مجلس النواب، مجلس الشيوخ، الوزارات، الهيئات والجهات الحكومية، وكذلك سفارات وقنصليات الدول الأجنبية، وستكون المركز المالي لمصر حيث يوجد بها حي المال والأعمال الذي سيضم المقرات والمكاتب الإقليمية لكبرى الشركات والبنوك المصرية والعالمية حول قصر المصرف المركزي الفخم؛ وبين هذه المبان مطبعة عملة، ومركز لإدارة وتخزين العملة أوتوماتيكيا.
قُسمت المدينة إدارياً إلى 20 حي ومنطقة مختلفة الاستخدامات، وستضم أيضاً على سبيل المثال مقر قيادة الدولة الاستراتيجي، مدينة الفنون والثقافة، مدينة مصر الدولية للألعاب الأولمبية، مدينة المعرفة، والنهر الأخضر الذي سيمتد لأكثر من 35 كم مما يجعله أكبر ستة أضعاف من سنترال بارك في مدينة نيويورك. كذلك مطار دولي.

ستستوعب المدينة الجديدة قُرابة سكان ليبيا كلها أي أكثر من 6.5 مليون إنسان، في 460 مشروعا، يحتوي على فنادق بمختلف الأحجام ومنتجعات وبيوت دوبلكس وفلل فاخرة، وشقق، ومولات ومحلات تجارية، وأبراج إدارية، كالبرج الأيقوني بارتفاع 400 متر الأطول أفريقياً، ومدينة استشفاء، يتخللها خط قطار معلق يسير بخط أكثر 60 كم من القاهرة لقلب العاصمة الإدارية، وعدد كبير من المساجد الفاخرة أكبرها جامع الفتاح الكبير، أيضاً كاتدرائية ميلاد المسيح، ومساحات خضراء ومسارح والمتحف الوطني ونواد رياضية، ومدينة جامعية تضم أكثر من 12 جامعة عالمية رائدة، قدرت تكلفة المرحلة الأولى حتى عام 2021م بـ 25 مليار دولار؛ تحمل الجيش والحكومة عبء توفيرها، وتم تمويلها كلياً من خارج الميزانية العامة للدولة.

وعليه لا سبيل لنا من الخروج من الترهل والتكدس السائر في طرابلس، والخروج من المختنق السياسي والمركزية الجهوية، للنهوض بوطننا المكلوم الذي رسمه الآباء والأجداد، ذلك وفاءً لدماء الشهداء ودموع ثكلاهم وأراملهم، وأنين منفييهم ومهجريهم، وكل من تعذب؛ لا سبيل لنا إلا بالعودة إلى "ضبط المصنع" الأصلي، والتفكير جدياً في مقترح الوطني الغيور الدكتور العنيزي، الذي أراد أن يلفت أنظار الليبيين - عامة وخاصة - إلى مقترحه هذا في أقرب الآجال للحفاظ على وحدة التراب الليبي، والرقي بالبلد إلى مصاف الدول الحديثة المنسجمة مع ذاتها ومكوناتها.