Atwasat

كيف يفكر الجواسيس؟

جمعة بوكليب الأربعاء 18 يناير 2023, 02:34 مساء
جمعة بوكليب

لماذا حين نسمع أو نقرأ كلمة جاسوس أو جوسسة نحسُّ بعضلة القلب تنقبض خوفا، وتعتري أبداننا قشعريرة؟ لأن ذاكرة الكلمة تستدعي في الأذهان عالما خفيّا مرعبا. البعض يطلق على ذلك العالم اسم الدولة الخفيّة. لكن الجوسسة وأهلها جزء من عالمنا الأرضي، ولا فرار من التعايش معهم، كما يتعايش المرء مع عدو.

كثيرا ما نسمع البعض منّا يردد أمامنا أن البغاء أقدم المهن التي عرفتها الإنسانية. وإذا صح ذلك، فيحق لي الادعاء بأن الجوسسة تأتي في المرتبة الثانية.

في مملكة صاحب الجلالة الملك تشارلز الثالث، ملك المملكة المتحدة وشمال أيرلندا، توجد ثلاثة أجهزة جوسسة رئيسة. تخصص الأول منها في الأمن الداخلي وعُرف اختصارا باسم «إم آي 5». وتخصص الثاني في الأمن الخارجي وعُرف اختصارا باسم «إم آي 6». وتخصص الثالث في توفير الحماية للاتصالات الحكومية وعرف باسم (Government Communications Headquarters)) وترجمتها، مقر الاتصال الحكومي. ويرمز له اختصارا بالحروف «GCHQ».

الجهازان الأولان يتعلق عملهما بالحصول على المعلومات من البشر. في حين أن الثالث منهم تتعلق مهمته في الحصول عليها عبر التجسس على وسائل الاتصالات.

ولعل كثيرين منكم يتذكرون ما صرّحت به مرّة السيدة كلير شورت، وكانت وزيرة في حكومة السيد توني بلير العمالية، خلال حرب العراق، حين كشفت أنها كانت تأتيها تقارير وقتذاك تتعلق بما يجري في غرف مغلقة في مكتب الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان من اجتماعات سرّية. تلك التقارير السرية الاستخباراتية جاءت من مكاتب جهازGCHQ- مقر الاتصالات الحكومي . وتصريحات السيدة شورت، كشفت حقيقة أن بريطانيا كانت تتجسس على تلك الاجتماعات عبر الأقمار الاصطناعية.

وأدت إلى حدوث فضيحة للحكومة البريطانية. وكالعادة، عبر الأمين العام للأمم المتحدة، آنذاك، كوفي عنان عن قلقه. وفي ردها على التهمة، قالت الحكومة البريطانية إنها عمليا لم تخترق أي تشريعات أو حدود، وأنها حصلت على المعلومات من الفضاء الخارجي، وهو ليس ملكاً لأحد!!

قصدت من خلال هذه المقدمة تقديم لمحة تعريفية بالجهاز الأمني الأخير، لأن واحدا من رؤسائه السابقين، اسمه ديفيد أوماند، نشر مؤخرا كتابا بعنوان (كيف يفكر الجواسيس؟) وشخصيا، لم أقرأ الكتاب، لكني قرأتُ عرضا له بإحدى الصحف.

ليس من عادة رؤساء الأجهزة الأمنية البريطانية نشر كتب تتعلق بالمهنة أو بأسرارها. لكن ذلك التقليد تغيّر منذ سنوات مضت، حين عينت الحكومة البريطانية امرأة، لأول مرّة، رئيسا لجهاز الأمن الداخلي «إم آي 5». تلك السيدة، بعد تركها للمنصب، كسرت التقليد ونشرت كتاباً، لا قيمة له، عن تجربتها المهنية في الجهاز.

يتطرق المؤلف ديفيد أوماند، في كتابه، إلى الكيفية التي تقيّم بها الأجهزة الأمنية البريطانية المعلومات الاستخباراتية. تلك الكيفية أساسها ما أطلق عليه المؤلف اختصارا اسم (SEES).

حرف (S) الأول اختصار لمصطلح (Situational Awareness) ويعني الوعي الظرفي. ويتعلق بتوفر معلومات واقعية حول ما يحدث الآن. وحرف(E) الثاني اختصار لمصطلح (Explanation) ويعني الشرح: لماذا نرى ما نراه؟ وما هي دوافع المنخرطين فيه ومدى إسهامهم؟. الحرف (E) الثالث، اختصار لمصطلح (Estimates) وترجمتها التقديرات، ويعني بذلك اقتراحات مستنيرة حول الطرق المختلفة التي من الممكن أن تتكشف عنها الأحداث. وحرف (S)الأخير يقصد به
(Strategic notice of future issues that may come into play).

وترجمتها إشعار استراتيجي بالقضايا التي من الممكن أن تدخل حيز التنفيذ.

ما كتبه السيد أوماند يدعونا إلى التوقف والسؤال. هل يا ترى استخدمت هذه العملية الدقيقة في تحليل المعلومات الاستخباراتية خلال أزمة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل؟

وإذا كان الجواب بنعم، فكيف أخطأت ذلك الخطأ الشنيع، بتأكيدها على امتلاك العراق لأسلحة الدمار، أم أن الخطأ مقصود، وأن الهدف لم يكن تدمير أسلحة الدمار الشامل، بل تدمير العراق؟

والمقصود بذلك، أنه يتوجب علينا ألا نصدق ما يكتبه وينشره جواسيس احترفوا الكذب والتضليل، لتحقيق حاجات في نفس يعقوب، لا يعلمها إلا هم، وليس بنوايا فعل الخير.

ولأن الجواسيس، على اختلاف جنسياتهم، أولاد أجهزة مخابراتية سرّية، تعمل بآليات معقدة، تخرج عن نطاق المألوف والمعاش لأمثالنا من الناس العاديين، ولا تخضع لمنظومة القيم المتعارف عليها.