Atwasat

المنتصر لا ينال شيئا

محمد عقيلة العمامي الإثنين 16 يناير 2023, 01:44 مساء
محمد عقيلة العمامي

«هناك خاسر جيد، وخاسر لا يجيد التمثيل!». وضمنيا يبدو لنا في هذا القول أن الخاسر الجيد يتظاهر، أو بمعنى أدق، يمثل وكأن الخسارة لا تؤثر فيه، في حين أنه متأثر بها؛ وذلك يعني أن يبدو الخاسر أو المهزوم طبيعيا، أو لنقل متظاهرا أنه ليس متأثرا بخسارته، وهذا لا يقبله المنطق ولا الطبيعة الإنسانية، لأن ذلك لا يتفق مع ما يعتمل في صدره، حتى وإن أخفاه. أما الخاسر الصادق، فهو ذلك الذي لا يجيد التظاهر بأنه ليس متأثرا.

الروائي ذائع الصيت إرنست همنغواي، الحائز على جائزة نوبل عن روايته «العجوز والبحر»، التي وردت في طياتها مقولته الشهيرة «الإنسان يدمر، ولكنه لا يهزم».

- Man could destroyed but not defeated- وهو صاحب فكرة الخاسر الصادق هو الذي لا يجيد تمثيل دور من لا تؤثر فيه الخسارة.

هيمنغواي له مجموعة قصصية عنوانها «الفائز لا يأخذ شيئا- Winner Take Nothing» صدرت سنة 1933، وهي الثالثة في مجموعاته، ويرى النقاد أنها الأقل شهرة من سابقتيها: «في زماننا» سنة 1925 و«رجال بلا نساء» سنة 1937.

المجموعة الأخيرة تتناول شخصيات منعزلة، خاسرة، غير سوية مريضة، معذبة ومحبطة، وهي لا تتفق وسيرته المهنية وتجربته الحياتية؛ فهو الصياد المتمرس، وهو الملاكم، وهو الذي اندفع بسيارة إسعاف في ميادين القتال، وكمراسل حربي، ولم يغب عن غابات الحيوانات المفترسة. إنه لا يقبل الهزيمة.

مجموعة قصص إرنست همنغواي، القصيرة «الفائز لا يأخذ شيئا» قاتمة وساخرة وروح الدعابة فيها أحيانا سوداء. إنها من القصص القصيرة التي تهدف إلى إفادتنا برؤية المؤلف الخاصة للخاسر الصادق، المتناغم مع قناعته ونفسه، فتجربته الحياتية أخذته شابا طاف أنحاء أمريكا وكندا ولاحقا في أوروبا.

من هذه المجموعة ننتقي أمثلة عن هؤلاء الفائزين الذين لم يأخذوا شيئا، ولكنهم كافئوا أنفسهم فوصلوا إلى حد التناغم مع نفسياتهم:
في قصة ذلك الـ «مكان نظيف جيد الإضاءة»، يصف من خلال قصة قصيرة ومؤثرة أرق ذلك المخمور في ليل باريس، فهو يحتاج إلى بضعة كؤوس إضافية، فيما يرغب النادلان في عودتهما إلى بيتيهما. وفي قصته «تغيير البحر»- أب أناني يحاول إقناع ابنته الحامل بالإجهاض. أما قصة «انتظار» وهي من سرديات الكوميديا السوداء، فتتحدث عن صبي يعتقد أنه يحتضر بسبب الحمى. «تاريخ طبيعي للموتى»، وهي واحدة من أروع قصص همنغواي القصيرة، تبدأ كأطروحة رائعة شبه علمية عن الموت، ثم تتدهور بشكل متعمد إلى ذكريات شخصية عن الحرب.

وسواء إن أخذت بأسلوب سرد همنغواي، أو لم يعجبك، يظل أحد أهم كُتاب اللغة الإنجليزية في العصر الحديث، وهو أحد الذين أوصل المترجم منير بعلبكي أسلوبهم باقتدار من خلال اللغة العربية للعرب.
كان هيمنغواي قد طور أسلوبه الخاص، بود وبعناية حتى للأشخاص الذين بالكاد يعرفون أساليب السرد، مما أدى إلى زيادة شعبيته بشكل كبير، كل ذلك تحقق بسبب أسلوبه السردي الواقعي الساخر في الحياة، مستثمرا أسلوبه السلس البسيط، متعاملا مع مواضيع لم تكن شائعة وقت شهرته.

رؤية همنغواي، ونقده لقسوة الحياة نفذه بشكل قاتم بلا هوادة، وإن صبغه بروح دعابة خشنة بمسحة من العاطفة، كل ذلك تحدد من خلال عمل كاتب مفكر، يعتقد أن الحياة تحطم الخير والشر على السواء، تعاقب الرذيلة، ونادرا ما تكافئ الفضيلة. إنه عمل كاتب صقلته التجربة، فجعلته يسخر من نتائج نصر كان صعبا، ومن بعد أن تحصّل عليه، اكتشف أنه أجوف.

ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن النقاد انتبهوا بجلاء إلى أن هيمنغواي كان يستمتع بالحياة، مفتنًا بمباهجها من أكل وشرب وقتال وصيد الضواري والأسماك والسفر، ومباهج الحب والمغامرة، مما يجعل قراءة تجربته جديرة بالاهتمام.

وهيمنغواي قال، مثلما ذكرنا، يمكن تدميرالرجل، ولكن لا يمكن هزيمته، وهذا ما يكفينا من موقف تحديه، مثلما تناوله في مجموعته، الجديرة بقراءة ثانية: «الفائز أو المنتصر لا ينال شيئا»، ولعل القارئ سوف يأخذ شيئا إيجابيا، مما يعتقد أنه لا شيء.