Atwasat

يا فاروق يا أنتيكا

عبد الكافي المغربي الخميس 30 يونيو 2022, 01:33 مساء
عبد الكافي المغربي

فيما أحتفي برد الككلي، أخشى أن يكون مَثَلُنا، في مراكمة هذه الردود التي يبدو أن كتابها فقط يهتمون بقراءتها، مَثَل بطل Ernesto Sabato، متحلقين حول دائرتنا المصطفاة، منكمشين في النفق المعتم لمثقفين متعالين على الواقع المعاش من قبل شركائنا الذين حالت دونهم الأسباب ليؤنسوا وحشتنا.

أخذ الككلي في افتتاحية مقاله على وجهة نظري إسهابها. وما كانت تحسن الإشارة إلى طول مقالي، في الوقت الذي كنت أقوم فيه، على نهج Jacques Derrida, بتفكيك موقف الككلي، وكان لا بد قبل الشروع في التفكيك أن ألخص النقاط التي تناولها في مقاله الأصلي.

يؤكد Derrida أن سوء الفهم هو السمة المميزة للغة، ومن هذا المنطلق تقدم التفكيكيون لتدنيس كل ما هو راسخ في ثقافة غربية علمانية منهكة. وإذًاً وقع أعظم سوء فهم، كان سيقوض مقالي، وهو التفات الككلي إلى ما وجده مزاعم من جانبي ببلوغ الصفاء الموضوعي.

عندما كتبت: «تبرر التفكيكية، في الوقت نفسه الذي تحبط فيه، تخمينات الناقد التفكيكي وبوارق فكره، إزاء النبرة الاتهامية للماركسية،» «والاعتقاد الراسخ للليبرالية والأيديولوجيا المحافِظة،» ثم استخلصت نسختي منها التي «تدرك تعقيدات الواقع السياسي وتقلباته، وتتهيأ لقبول أو ترويج نهايات مفتوحة» أردت أن أنفي أن تكون الموضوعية سلاحي، فأنا أستبعد الموضوعية من خطابي، إلا من «قبس حزين»، في الوقت نفسه الذي أدنس فيه موضوعية غيري من الكتاب، بمن فيهم فرج الترهوني، النادم، المزدري لهذا الواقع الآسن. ولقد وفقت إلى كتابة المقال الجاد حتى أختم مقالي بفقرة تحريضية، تعبوية وشخصانية، حتى لا يفهم أنني إنما أتسلط بموضوعية زائفة. أنطلق إلى مستقبل متجهم بإيمان أن العقل البشري لم يتقدم دائما على نحو «عقلاني».

في غرفة محظية بإنارة ساطعة، ومتسلحا ضد حميم القاهرة بدورات محرك المروحة، وفيما تفصلني سنة عن الاستقرار النهائي في دولة ال Commonwealth الملكي كندا يمكنني في اطمئناني لمصيري أن أغالب الواقع المفتقر، المؤسف، وأطالب الليبيين بالانضباط لتأليف الديمقراطية الجمهورية، وأن أكمل التحلي بالأخلاق العلمانية بعدم الانتظام خلف صف الملكيين.

لأن سائق التاكسي كان ولا يزال الناطق باسم ضجر الشارع، اخترت عنوان مقالي هذا هتاف الغوغائيين أمام قصر الملك فاروق الأول: «يا فاروق يا أنتيكا.. هات أمك من أمريكا». فإذا استثنيت المرات التي صادفت فيها سائق تاكسي يأسف لعهد الإخوان، فلم أستقل تاكسي يحتفظ سائقه بدرجة ضئيلة من الاهتمام السياسي إلا وأراه ينقلب إلى عهد المملكة المصرية بأسف خائب يدرك ضياع الفرصة، وأن ماضيه هو المستحيل، ومستقبله هو غير الممكن. إن كل سائق تاكسي هو جمعة بوكليب بسيط، يواجه كابوس «إبليس ولا إدريس» الخاص به.

لا يمكن أن أقدس فاروق، بيْدَ أني أحترمه، نظافة يده إلا من الدخل الذي تقره الحكومة، وأقارن بين أميرات مصريات تزوجت إحداهن من برجوازي سويسري صغير، وعملن في الترجمة، والتدريس في مدارس أوروبا الابتدائية، والرغد فوق العادة الذي يرفل فيه آل الأسد والقذافي، وبنات صدام حسين. ولا شك أن النظام الملكي لو لم يتداعَ بعد وفاة حسنين باشا المستشار الحكيم، لما تجمد العقل العربي بحسب اتهام محمود شمام للناصرية، ولما أفلتت سورية من قبضة الأتاسي والقدسي، أو العراق من يد نوري السعيد باشا والأمير عبد الإله. باختصار، لم يتسلط علينا الأبالسة بكل ألوانهم ولهجاتهم وسنوات ميلادهم.

كذلك فإن كل علماني عرفته في بنغازي، وقد قضت عليه ما تسمى بالصحوة الإسلامية المرعية من طغاة السبعينيات أن يتخذ رمزا لموقفه المناهض لمجتمعه الجامد أن تكون زوجته غير محجبة، يقر أننا لن نكون أبدا مثل «هؤلاء»، لن نتجه بعد إعدام تشاوتشسكو إلى بناء الديمقراطية، وأنه من دواعي الأسى أن بلدنا لم تحافظ على نظامها الملكي. لا شك أن هؤلاء العلمانيين شباب أو متوسطو السن، غير أنه ثمة خيبة أمل تبرز بين الأجيال التالية للمستنيرين العرب، ربما لم تسجل بقوة كما في مقطع العراقي «أحمد الفارابي»، أحد أهم المثقفين العرب على اليوتيوب، عن مجزرة قاعة الخلد، والذي قدر فيه أن عذابات العراقيين المستمرة على امتداد ستينية سوداء هي جزاء موفى للانقلاب على المملكة العراقية الهاشمية، في ذلك اليوم الدامي الذي كان ليبشر بغرق العراق في نهر أحمر لا يقدر له أن ينضب.

ردود الفعل الاضطرارية هذه، من مثقفي ما بعد جيل الككلي، والتي تلمس الراديكالية والثورية في الأنظمة الملكية، إزاء جمود الأنظمة العسكرية وفوضوية الإخفاقات الديمقراطية، لا ينبغي تجاهلها، إذ هي تنبع من خبرة المثقف مع إحباطات الواقع التي تجعل المواطن العربي المذل والمهان، والمغرق في جهله، يطالب بالديكتاتورية العسكرية، ويساندها في الانتخابات الديمقراطية التمثيلية الكاملة.

«يا فاروق يا أنتيكا» كانت بادئة انطلاقة هذه الضوضاء التي سمحت للسلاح أن يدنس السلطة، وسوف لن أحفل بالاحتجاج بأن النظام الملكي المصري كان يحتفي بالجهل. دع عنك الفلاح الكفيف طه حسين الذي أوفدوه ومنحوه منصبا براتب مجزٍٍ، برغم طول لسانه، ولنطرح من الحساب يحيى حقي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، سادة الأدب العربي، وكلهم بلغوا نضجهم في عهد المملكة، ولنرَ ما أورثتنا شيوعية التعليم التي طالب بها طه حسين: جهل المتعلمين. نحن نحب الأطفال لقابليتهم لاستيعاب الأيديولوجيا. كان النظام الملكي المصري يسير في اتجاه استغلال براءة طفولة الفلاح، إلى تهذيب جهله، ولا شك أن ذلك في بلد كمصر كان يتطلب عقودا إضافية. كان بوسع ماو أن يحشد الفلاحين لتأسيس هذه الإمبراطورية التي ترتعد لها فرائص الشرق والغرب اليوم، لكن نكبة العرب هي أن الجاهل فيهم يؤمن بأنه متعلم، قد كف عن الاستيعاب الأيديولوجي، وأنه لا يمكنه التسامح مع طرح مخالف، على النقيض من موقف المثقف الحقيقي، عمر الككلي، الذي يجادل المخالفين بكل صفاء قلب، كونه من مخرجات المنظومة التعليمية الملكية.

يقارب الككلي المغالطة باعتقاده أن التوافق على ابن ولي العهد، صاحب السمو الملكي الأمير محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي، يكاد يكون مستحيلا، وإيمانه أن التدين والولاء البرقاوي فقط قد يقفان خلف استعادة الملكية، وأنه في غياب هذين العنصرين، يمكن أن نحكم على المملكة بالاندثار. لست مقربا من الملكيين، ولكن أعلم أن أشرف بودوارة، رئيس المؤتمر الوطني لاستعادة الملكية من مصراتة برقة، وسامي العالم وأمين الورفلي أهم قادة الملكيين في إقليم طرابلس يحققون مكاسب في غرب ليبيا على حساب الحكومتين الفاسدتين، مستفيدين من تصاعد مشاعر اليأس بين المواطنين. وكتب الدكتور عبد الرحمن هابيل، وزير الثقافة الأسبق، مقال خبير قانوني لمجلة العلاقات الدولية The National Interest، شدد فيه على أن معطيات الواقع الليبي تخدم صعود المملكة الليبية إذا أردنا تجنب، أولا، التقسيم والحرب الشاملة، وثانيا، أفغانستان أخرى على الشواطيء الأوروبية.

أمام التاريخ الأليف الذي تستعاد فيه مملكة فرنسا لحرص الأنظمة الأوروبية على احتواء الراديكالية، يوجد تاريخ مقابل: عندما لا يُسترجَع الحكم الإمبراطوري في ألمانيا، أو النظام الملكي اليوناني: تاريخ النهايات المفتوحة، الخيارات الاضطرارية. وإذا كان هابيل قد تكهن بالفشل المقدر لترتيب الانتخابات، ولم يتورع عن التشكيك في نزاهتها، فلا شك أن التاريخ المقابل أثبت جدليته، برغم محاولة الدول الغربية وروسيا فرض رجالها عبر الانتخابات. لأنك تدرك أن ابنك قد فلت عندما يبدأ في التبجح بالألفاظ السوقية التي احتلت عند شباب هذه الأيام مكان حب النكتة والكِتاب عند جيل نجيب الحصادي، يجب أن تنتظر منه فقط أن يتقدم في مضمار السوء، لأن الانحراف عن طريق الانحراف ليس غير حدث خليق بالروايات الناجحة.

كتب المفكر البنيوي Claude Lévi-Strauss في كتابه، The Savage Mind: التاريخ ليس أبدا لذاته، بل التاريخ بالنسبة لنا، أو لي. عند مراجعة التاريخ، والخبرة بالحاضر، نجد أن ابن ولي العهد سيكون قادرا، بدعم دولي ومغاربي حريص على مصالحه العادلة، على توحيد ليبيا برمزيته التي لا تنتمي لأي إقليم، وبصلاحياته الكاملة، مقابل هذا الفساد الشامل، أو سيناريو التقسيم النهائي، بما أن الوضع الليبي هو أشد وأنكى من المشهد العراقي. أنا أعرف أمتي، وقد كافحت بتجربة تحول جد عسيرة من أعماق الجهل، بصفتي لم أحظَ بأي تعليم جدير بالإنسان الحديث، ولذلك أطالب بملكية 1963 تاجها يستقر على رأس أمير نزيه يقدر مسؤوليات عراقة أصله وانتسابه إلى من جربناهم فلم نخبر منهم إلا النهضة ورفاهية العيش، وأولًا، وقبل كل شيء، الاستثمار في التعليم، ليغدو الإنسان إنسانا.