Atwasat

ليبيا: من معجزة إلى خرافة!

سالم العوكلي الثلاثاء 19 يناير 2021, 11:56 صباحا
سالم العوكلي

في المقالة السابقة عرضت سردا يعتمد على كتاب أدريان بيلت (استقلال ليبيا والأمم المتحدة: حالة تفكيك ممنهج للاستعمار) لصراع القوى الكبرى بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية لتقسيم تَرِكتِها في ليبيا بينها ولو لفترة محددة، حيث كان غياب الليبيين وليبيا موحدةً عن الجدال الذي دار في كل المؤتمرات والمبادرات جليا إلى أن أحيلت المسألة إلى منظمة الأمم المتحدة، لكن كما يطرح أدريان في استهلال كتابه مسحة تاريخية عن وضع ليبيا وأقاليمها قبل هذه الفترة، كان الداخل الليبي أيضا يعيش زخما كبيرا حيال مسألة الاستقلال والوحدة التي شكلت مدار جدل داخلي.

يقول أدريان في مستهل فصل (البحث عن الوحدة): "كان القول الشائع في العالم الغربي في أوائل خمسينيات القرن العشرين أنه ما كان من الممكن أبداً أن تصبح ليبيا دولة مستقلة لولا انقسام القوى العظمى ولولا مساعدة الأمم المتحدة. غير أن المؤلف يصل، عبر تقصي الوقائع، إلى نتيجة مختلفة إلى حد ما.". وفي هامش تحت هذه العبارة يضع مبررا للنتيجة المختلفة التي يصل إليها المؤلف عبر تتبعه للمشهد بعد وصوله إلى ليبيا يذكر "عندما وصلت بعثة الأمم المتحدة الى ليبيا في يناير 1950، قدمت أحزاب سياسية وأفراد إليها مذكرات ومطالب جديدة، كانت في الغالب مدعومة بعبارات شفوية، متعلقة بوجه خاص بمشاكل محلية وتشمل الجهود المبذولة لتحقيق الوحدة الداخلية والاستقلال."، مضيفا "لعله من الصحيح أيضا القول إنه لو لم تستدع الأمم المتحدة إلى جانب فراش ليبيا، لاستغرق المريض وقتا أطول مما حدث فعلا للتعافي من أمراضه الداخلية والخارجية".

وبنظرة شمولية يلقيها على المنطقة ودول الجوار التي كانت تمر بالظروف نفسها يعزز نتيجته بكون مصير المستعمرة الليبية لن يختلف عن مصير الجزائر ومصر وتونس والمغرب، حتى وإن لم تكن إيطاليا في الجانب المهزوم. طارحا سؤالا حدسيا يتعلق بالإقليم وما يمكن أن ينشب من خلافات بين جيران ليبيا لو دفعها قدرها نحو اتجاه مخالف لاتجاه الوحدة والاستقلال. ولعل السؤال المهم الذي يضع ليبيا مرة أخرى في هذا الوقت أمام علامة استفهامه، وانطلاقا من التصور السابق الذي، بالنسبة للمؤلف، لا يبرر "الاستنتاج بأن استقلال ليبيا وسلامة أراضيها لن تتعرض أبداً للخطر في المستقبل". ويحدد مصدرين لهذا الخطر يتمثلان في (1) نزاعات سياسية واجتماعية محلية تؤثر سلبا على وحدة البلاد، وتشجع التدخل الأجنبي. أو (2) نتيجة لتحول رئيس في توازن القوى السياسية والإستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط.

ويبدو أن هذه النقاط التي كأنها تحمل نبرة تحذير من تشظي الدولة أو تعرضها للتدخل مستقبلا تتحق بحذافيرها بعد 70 عاما من استقلال الدولة التي لم تستطع معالجة هشاشتها طيلة كل هذه العقود، وباعتبار هذين المصدرين للخطر كما يستطرد المؤلف "قاما بدور مهم أثناء الإعداد لاستقلال ليبيا، قد يقومان بنفس الدور مرة أخرى".

والآن تصل النزاعات السياسية والاجتماعية الداخلية إلى مستوى خطير مرة أخرى، بالإضافة إلى تحول استراتيجي في منطقة البحر المتوسط وما يحدث من صراع على الغاز في شرق المتوسط، وضعت ليبيا نفسها في قلبه عبر اتفاقيات عقَّدت أي محاولة لتوحيد البلد وجعلتها من جديد في مهب التشظي والتدخل الأجنبي.

"عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، اجتمع زعماء اللاجئين الطرابلسيين والبرقاويين في الأسكندرية من 20 إلى 23 أكتوبر 1939 . وقرروا تسليم قيادتهم المشتركة للسيد إدريس، حال موافقته على تعيين لجنة مشتركة من الزعماء البرقاويين والطرابلسيين لتقدم له المشورة حول كل القرارات المستقبلية التي قد تتخذ فيما يتعلق بتحرير البلاد".

كان الخلاف بين الوفدين الطرابلسي والبرقاوي يرجع إلى حدوس أو تقييم لمآل الحرب الجارية بين الحلفاء والمحور، ويشير المؤلف إلى أن وجهة نظر الوفد الطرابلسي كانت تذهب إلى أنه "من الصعوبة بمكان خلال الفترة 1940 ــ 1941 تخيل انتصار المملكة المتحدة التي كانت تحارب تقريبا بمفردها، واعتبروا، لذلك، أن الانحياز رسميا للبريطانيين في وقت كانت طرابلس تحت السيطرة الإيطالية القوية أمر خطير جداً. بينما حمل أعضاء اللجنة من البرقاويين، الذين كانوا متحدين تحت زعامة السيد إدريس، وجهة نظر مختلفة، معتقدين أنه ليس لديهم ما يفقدونه وأنهم سيكسبون كل شيء."

نلاحظ ان الاختلاف في الموقفين كان ينطلق من رؤى استراتيجية حول اصطفاف الليبيين بجانب طرف معين من الصراع الدولي، وأن النظر إلى مصالح ليبيا فيما يتعلق بالاستقلال والوحدة هو المشترك بين الأطراف وإن اختلفت الرؤى حول سبل الوصول إلى الهدف. يقول أدريان: "بعد ثلاث سنوات تغير المنظور تماما بالطبع، ولكن برقة تولت القيادة السياسية في وقت لم تتبعها طرابلس إلا في نهاية عام 1951، عندما، وبعد إعلان الاستقلال، اختفى التمييز بين الموقفين تماما".

ويشير إلى أن التوجه أو التردد الطرابلسي كان مبررا، لأن بريطانيا قامت بالتمييز بين الإقليمين عبر قبولها بالالتزام تجاه برقة ورفضها القيام بذلك تجاه طرابلس. وكان الطرابلسيون حريصين جدا على أن تشمل المطالبة بالاستقلال ليبيا كلها، وهو هدف لم يغب عن السيد إدريس الذي توجه بخطاب في أغسطس 1941، لوزير الدولة البريطاني في مصر، طلب فيه، مقابل الاعتراف به أميرا، منح ليبيا فورا استقلالا داخليا كاملا.

يورد المؤلف الكثير من التفاصيل عن حراك التيار الوطني الليبي بكل أطرافه والتي كانت تركز جهودها على الاستقلال الكامل للأراضي الليبية رغم ما كان يدور في كواليس القوى الكبرى، كما يبرز دور المنظمة الدولية عندما كانت في فترة طفولتها البريئة والإخلاص لأهداف تأسيسها إلى حد كبير، ورغم كل الآراء التي كانت تشكك في إمكانية قيام دولة في هذه المساحة الجغرافية الفقيرة في كل شيء ما عدا في رغبتها في أن تكون مستقلة، وفي غناها بشخصيات وطنية كانت تعرف ماذا تفعل رغم كل الاختلافات والخلافات بينها. وعن هذا التشكيك والتشويش يذكر إدريان في توطئته المهمة للكتاب: "لم يتباطأ المشككون في نشر تقارير ــ ناتجة عن خيال خصب ــ توحي بان القرار 289 (4) كان نتاجا سيئا لبنات أفكار تحالف غريب بين دبلوماسيين ساذجين وموظفين حكوميين ذوي توجهات مثالية نجحوا في اختراع دولة ليست غير قابلة للحياة فحسب، بل ستفشل أيضاً في الحصول على إيمان الشعب ذاته بها. ويعرف المطلعون على تاريخ ليبيا في القرن العشرين أن هذه الخرافة زائفة. فالأحداث أثناء الفترة الانتقالية (1950 ــ 1951) وعلى وجه الخصوص طريقة تولي الأمير والجمعية الوطنية الليبية بأنفسهم أمور مستقبل البلاد، بمزيد من الحزم، تثبت، وبعيدا عن كونها خرافة، أن استقلال ليبيا ووحدتها انعكاس حقيقي للاحتياجات والطموحات الوطنية.".

وصل المؤلف إلى هذه النتيجة المعجزة بعد عقدين من مراقبته لتطور الدولة الليبية وأطمئنانه على مسيرتها حيث يقول: "قبل الانقلاب العسكري في الأول من سبتمبر 1969 ، وباستثناء بعض الاضطرابات المحلية، من اللافت أن ليبيا لم تشهد، وبعكس الدول الجديدة الأخرى في أفريقيا وآسيا، اضطرابات خطيرة، بل وكانت هناك بدايات بطيئة ولكن واضحة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي". غير أنه لم ينس بواقع خبرته أن يحذر من الأخطار السابق ذكرها التي قد تخسف بهذه الدولة.

والسؤال الذي يراودني: بعد ما وصلنا إليه الآن، وعودتنا لذاك المربع الصفر تقريبا، هل كان رأي المشككين في حياة الدولة الليبية صائبا؟ وهل كانت الدولة الليبية طيلة هذه العقود خرافة؟. وللأسف هذا ما حدث بعد عقود من حكم شمولي قوض أسس الدولة المدنية الدستورية التي أسستها النخب الوطنية قبل سبعين عاما، وليترك ليبيا بعد أربعة عقود، دون مؤسسات أو عقد اجتماعي، على حافة هذه الأخطار، حيث كان شعار النظام الغالب الحفاظَ على الوحدة الوطنية التي أذابها فعليا في (وحدات عربية) أو أفريقية أو إسلامية، ولكن لم تُلغَ فقط الأقاليم، بل أُلغي اسم وكيان ليبيا كله، وتحولت إلى هلام يسبح في محيطات أخرى، أو تحولت من معجزة إلى خرافة يقودها خرّاف محنك؟.