Atwasat

"أغلب الناس يؤثرون الموت على التفكير"

سالم العوكلي الثلاثاء 11 أغسطس 2020, 10:48 صباحا
سالم العوكلي

في حيز التدوين العربي، أُنتجت العديد من الكتب التي تناقش مسألة "العقل العربي": تكوينه وبناؤه ونقده ومشكلاته، وبقدر التباس هذا التوصيف (العقل العربي) إلا أن المعني غالبا هو العقل النخبوي المتفكر ضمن اللغة العربية، ومن ثم الثقافة الحاضنة التي تأثر بها أو أثر فيها. ومن الممكن اختصار أزمة هذا العقل في ضعف إنتاجيته الفلسفية لحقب طويلة، وعدم مرونته مع شروط الحوار والاختلاف، وعوز في توجهاته النقدية، إلى آخر سمات القصور التي أحيلت إلى طبيعة تكوينه، وصولا إلى قيم حياتية مثل التسامح، والموضوعية، والتعايش، والديمقراطية، التي عادة ما تربط عثراتها جميعا بطبيعة هذا العقل وبنائه.

من جانب آخر طُرحت بحماس، الفترة الأخيرة، لافتة "تجديد الخطاب الديني" من أجل تجاوز ظاهرة التطرف أو التشدد كجانب إجرائي يتعلق بالحرب على ما يسمى "الإرهاب"، وهي لافتة تعكس في حد ذاتها أزمة هذا العقل الذي غالبا ما ينطلق من فرضيات خاطئة ويبني عليها ليصل بالضرورة إلى تشخيص خاطئ يترتب عنه علاجات خاطئة تستنفد الوقت وطاقات التفكير. وتكمن مشكلة هذه اللافتة في كونها تعزل الحقل الديني وكأنه حقل المعرفة الوحيد للتفاعل مع مقتضيات العيش الإنساني الذي يعاني من التطرف، ولا تشير إلى أن ما يستلزمه الأمر هو إنعاش حقول معرفية مهمة في جهاز الفكر لفهم العالم وفهم الذات وتحليل العلاقات بين الأشياء، فنحن لا نحتاج إلى تجديد الخطاب الديني (كمطلب أراه شخصيا لا يخلو من عبث) ولكن نحتاج إلى تجديد العقل وإخضاعه لتمرين وتدريب كي يفكر بشكل مختلف في كل حقل من حقول الحياة والمعرفة من ضمنها الدين.

وكل ما أشيرَ إليه من أزمات، إضافة إلى تمرين العقل (المعبر عنه مباشرة بتمارين الدماغ)، أرى أنها تتحقق عبر تسخير الفلسفة والتفكير النقدي لمعالجة كل أمور الحياة، والعمل على توطينها وإدراجها بجدية ضمن تكوين العقل الذي يتم معظمه في مراحل التعليم المختلفة، وتطوير مناهجها وطرق تدريسها وجعلها موادَ أساسية في كل المراحل وكل التخصصات الجامعية. وحسب ظني أن كل الأزمات السابق ذكرها تعود تاريخيا إلى وضع الفلسفة في ثقافتنا وخساراتها المتتالية، ما جعل ذِكرها في الثقافة الشعبية غالبا ما يرِد كمسبة أو سخرية، بينما السياسات العامة والسلطات التي تتوسل شرعيتها من الحقل الديني قلصت دور/ أو حرّمت أحيانا، الفلسفة وتدريسها، لأنها تقوض الأسس التي بنيت عليها سلطاتها، وحتى الطبقات الدينية التي تهيمن الآن على تفكير قواعد عريضة من المجتمعات المتدينة تهاجم الفلسفة باعتبارها مقوضة لسلطاتها ونفوذها ومصالحها.

في هذا السياق يأتي كتاب (حساسات التفكير الناقد: المفهومية واللغوية والمنطقية) للبروفسور نجيب الحصادي، موجها إلى الطلاب في جميع الاختصاصات وإلى القراء العاديين، بأسلوبه الممتع والسهل والعميق في الوقت نفسه.

الكتاب صدر ضمن منشورات: مؤسسة (كلام للبحوث والإعلام) و (مَجْمع ليبيا للدراسات المتقدمة). وهو تقريبا الأول من نوعه في اللغة العربية، وكما يقول مؤسس وصاحب مؤسستَي البحث الناشرتين للكتاب، د. عارف النايض، أن مثله لا يوجد حتى في اللغة الإنجليزية.

ضمن تعريف (التفكير الناقد) يرد في مقدمة الكتاب وصف لعمليات تأملية استبطانية ومستقلة، تحض على "إبداء الحرص في قبول الأحكام ورفضها وتعليقها؛ وتوصي بجميع الشواهد، والركون إلى العقل بدلا من العاطفة، وتحري الدقة، وأخذ مختلف وجهات النظر في الحسبان، ومعايرة أثر البواعث والتحيزات، وعدم التسرع في رفض الآراء الغريبة لمجرد كونها غريبة". ومشيرا إلى التداخل بين المنطق والتفكير الناقد، باعتبار الثاني يكمن اختلافه في كونه أكثر انشغالا بشؤون الحياة باختلاف مناحيها، أو "لعل التفكير الناقد بهذا المعنى منطق أقرب إلى عموم الناس، وأكثر صلة بشؤونهم، وأحرص على تبنيهم أساليب تفكُّرٍ عقلانية.".

ولأن مناهج الفلسفة التي تدرس بخجل في بعض مراحل التعليم بعيدة عن مشكلات الحياة وإثراء لغة التفاهم بين البشر العاديين، فإن التفكير الناقد يستجيب " لشكوى مكرورة من أن المفردات التي تُدرّس في المؤسسات التعليمية لا تكاد تمت بوشيجة إلى صروف الحياة اليومية".

من هذا المنطلق فإن الكتاب الذي يتبني أسلوب عرض التمارين والمسائل لإنعاش ملكة التفكر النقدي، يطرح الكثير من الأمثلة والمسائل تجاه مقولات شهيرة أو أمثلة من الحياة الليبية الراهنة فيما يخص العديد من القضايا الخلافية أو الأغاليط، وإنعاش الحساسات المفهومية واللغوية والمنطقية التي تصقل مهارات الفهم والتحليل الضرورية للتفكير الناقد.

"وعلى المستوى الجمعي، استخدامات التفكير الناقد واضحة أيضا، خصوصا في المجتمعات الديمقراطية، حيث يُفترض أن يفكر المواطنون لأنفسهم، وأن يتحاوروا حول المشكلات التي يواجهها مجتمعهم بحرية مطلقة، وأن ينتخبوا قادتهم وفق تقويم متروٍ ومدقق لما يقترحونه في حملاتهم الانتخابية من برامج وسياسات. وبصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي الحاكم، قد يستبين أن المجتمعات المتخلفة أكثر حاجة من غيرها لإعمال آليات التفكير الناقد، بل لعل فشلها في إعمالها من أهم أسباب تخلفها.".

من أمثلة هذا التفاعل مع قضايا محلية لها بعدها الإنساني الذي يليق بطبيعة التفكر الفلسفي، هذه المسائل التي تُطرح من أجل تفاعل ونقاش الطلاب حيالها. تحت عنوان جانبي "حكم العادة"، وفي سياق الحديث عن التفكير خارج الصندوق ــ وهو تفكير من ضمن سجايا المتفكر الناقد، باعتبار أن من يمتثل لحكم العادة غالبا ما يأسر نفسه في صناديق أساليب تقليدية في الاستدلال ــ يطرح مسألة من خلال مقالة للكاتب عمر الككلي يفكر عبرها خارج الصندوق: "يحاول الكاتب الليبي عمر الككلي في المقالة التالية التفكير خارج الصندوق عبر التمييز بين مفهومين بطريقة غير تقليدية. اقرأ المقالة واتخذ موقفا من النتيجة التي تخلص إليها ...". تتضمن المسألة الجزء الهام من التفكير بعكس حكم العادة أو خارج الصندوق ويشير إليها في الهامش التالي: "نشرت هذه المقالة تحت عنوان "التفاؤل: تشاؤما معكوسا" في صحيفة الوسط الليبية يوم 21 مايو 2017.". وهي مقالة تعيد قراءة المثل الشائع حول نصف الكوب المملوء ونصفه الفارغ.

أهم ما يلفت في هذا الكتاب مسألة هي في حد ذاتها تطرح طبيعة المتفكر الناقد الذي سيكون التواضع ونقد الذات من أهم خصاله. تحت باب "أغاليط وقضايا خلافية" وعنوان فرعي "التعميم الطائش" يطرح هذه المسألة: "بيّنْ الأغاليط التي يقع فيها صاحب هذا النص. لا يميل الليبي، بحكم تنشئته، إلى عقد التمييزات، ولا تروق له العناية بالتفاصيل، فهو لا يصبر عليها، وتسبب له عناء ذهنيا ممضا. هذا ما يجعله ينحو إلى التعميم ووضع المتشابهين مهما اختلفوا، في سلة واحدة....... ". يستمر النص لكن اللافت أن صاحبه هو نجيب الحصادي نفسه الذي انتبه لهذه الأغلوطة حين عرضه على ابنه لقمان قبل نشره، ونبهه إلى التناقض الذي يقع فيه النص، ليعرضه في الكتاب كمسألة تحتاج إلى إعمال التفكير الناقد.

ومع أني أكاد أتفق معه على هذا التعميم (غير الطائش تماما) الذي يرصد ذهنية مجتمعٍ، كله تقريبا لم يدرس أو يتلق تدريبا على التفكير الناقد، والكثيرون لم يسمعوا حتى بالمصطلح، بل إن هذا الهوس بالتعميم يطالنا حتى ككُتاب أو قراء فلسفة، وكثيرا ما أقع فيه أنا نفسي، لكن الفرق يكمن في الوعي به ونقده والتراجع عنه دون أي إحساس بالحرج، وهذا درس يلقنه لنا تعلم التفكير الناقد الذي ليس بالضرورة موجها لما يقوله أو يكتبه الآخرون لكنه مهم لمراجعة ما نقول أو نكتب، ومهم لأسمى قيمة إنسانية وهي الاعتراف بالخطأ والاعتذار.

أو كما يقتبس نجيب الحصادي من الروائي التشيكي ميلان كونديرا، ضمن الكثير من الاقتباسات أو دعوات التفكر التي يؤثث بها الكتاب: "يحتاج المرء إلى قدر كبير من النضج المعرفي والسمو الأخلاقي كي يدرك أن رأيه ليس سوى فرضيته المفضلة.".

يقول سقراط: "أن حياة لا تُمتحن ليست جديرة بالعيش". بينما برتراند راسل يقول " أغلب الناس يؤثرون الموت على التفكير".


اتمنى أن يأتي اليوم الذي يُقرَّر فيه هذا الكتاب ومناهج أخرى في التفكير الناقد في مؤسساتنا التعليمية لتطلع أجيال تفضل التفكير على الموت.