Atwasat

كورونا ومهاجمة المثقفين

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 05 أبريل 2020, 09:52 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

رددت على مقال رافد علي "كورونا وأدوار مفقودة"، الذي يتحدث فيه، بشكل أساسي، عن غياب دور المثقف الليبي، في الداخل والشتات (كما يعبر)، من ميدان المواجهة مع فايروس كورونا!، بمقال "عند افتقاد الخبز نأكل الغاتوه". فرد بمقال "أبراج عاجية وخبيز" ضرب فيه في بحار أخرى وجال في الجهات الأصلية والفرعية.

لن أتتبع رافد في البحار التي مخر عبابها، وإنما سأبقى، كما في مقالي الأول، على اليابسة وأرد على نقاط محددة.

* بداية يقرر رافد أنني لم أقرأ كتاب إدوارد سعيد "المثقف والسلطة"*، بالقول "من الواضح أن عمر الككلي لم يقرأ كتاب المثقف والسلطة". وهذا القول ينطوي على وصمي بنقيصة أخلاقية هي الادعاء والكذب بإيهامي القراء أنني قرأت كتبا لم أقرأها. لكنني، في الواقع، قرأت الكتاب ثلاث مرات.

المرة الأولى كانت سنة 2009 في ترجمة قام بها حسام خضور بعنوان "الآلهة التي تفشل دائما"، وهو عنوان الفصل السادس من الكتاب. ثم قرأته منذ حوالي ثلاث سنوات بترجمة د. محمد عناني التي اختار لها عنوان "المثقف والسلطة" [العنوان الأصلي للكتاب في الإنغليزية Representations of the Intellectual الذي لعل أفضل ترجمة له: صور المثقف"]. وقرأته مرة ثالثة وأنا بصدد الرد على مقالة رافد. غير أنني لم أستخدمه في ردي إلا في الإشارة العابرة إلى غرامشي.

ثم يقرر أن إدوارد سعيد " لم يتبنَّ... تعريف الماركسي الإيطالي جرامشي للمثقف كما يتفضل الككلي بمقالته". والحقيقة أنا لم أقل أن إدوارد سعيد تبنى تعريف غرامشي للمثقف، وإنما قلت أنه " طرح، اعتمادا على غرامشي، تعريفا للمثقف". أي أن تعريف إدوارد سعيد للمثقف يدور في فلك تعريف غرامشي له، ولا يستنسخه. ويقرر رافد أن إدوارد سعيد يذكر "تعريف جوليان بندا للمثقف في كتابه "خيانة المثقف" أنه التعريف الأكثر شهرة في القرن العشرين في معرض استعراضه لأفكار بندا، الذي ذكره إدوارد سعيد في الكتاب أكثر من جرامشي الذي جاء كتقديم افتتاحي مبسط بحكم الميولات اليسارية بين الرجلين ربما [يعني "قلع ملام"!]، ما لم نقل بحكم ذيوع الصيت لجرامشي الذي قدم المثقف العضوي كتجديد في أوج الفكر الماركسي". لكن، مادام الكتاب في متناولنا فلنحتكم إليه.

* في بداية الفصل الأول الذي عنوانه "صور تمثيل المثقف" يشير سعيد إلى وجود تعريفين متعارضين للمثقف أو المفكر من أشهر تعريفات القرن العشرين، ويبدأ بتعريف غرامشي القائل "إن جميع الناس مفكرون، ومن ثم نستطيع أن نقول: ولكن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس" (ص32).

وعندما يستعرض أطروحات بندا وتصوره للمثقفين الحقيقيين، يقول "ولا يوضح بندا قط كيف يتأتى لهؤلاء الرجال [فهو لا يدرج المرأة في تعريفه إطلاقا] أن يعرفوا الحقيقة، أو ما إذا كانت ثمار بصائرهم النافذة في المباديء الخالدة لا تزيد عن كونها أوهاما فردية مثل أوهام دون كيخوتة" (ص38). على أثر ذلك يعود إلى غرامشي ليقول "وأما التحليل الاجتماعي الذي يقدمه جرامشي للمثقف باعتباره شخصا يؤدي مجموعة محددة من الوظائف في المجتمع فهو أقرب إلى الواقع من أي شيء يقدمه بندا لنا، خصوصا في آخر القرن العشرين، حيث نشهد مهنا جديدة كثيرة تؤكد صحة رؤية جرامشي" (ص40). ويعود إلى غرامشي مرة أخرى ليقول "كما اتسع انتشار المثقفين في مجالات بالغة الكثرة، وهي المجالات التي أصبحوا فيها محلا للدراسة، وقد يكون ذلك نتيجة أقوال جرامشي الرائدة في مذكرات السجن، وهي الأقوال التي تنسب للمثقفين، لا للطبقات الاجتماعية، الدور المحوري في عمل المجتمع الحديث وربما كانت هذه أول مرة يقال فيها ذلك" (ص42).

ويمهد إدوارد سعيد لتعريفه للمثقف بالقول "والحجة التي أنتوي إقامتها في هذه المحاضرات تسلم بوجود حقائق الواقع المذكورة في نهاية القرن العشرين، وهي التي ألمح إليها جرامشي أول الأمر، ولكنني أود أيضا أن أؤكد هنا أن المثقف ينهض بدور محدد في الحياة العامة في مجتمعه، ولا يمكن اختزال صورته بحيث تصبح صورة مهني مجهول الهوية، أي مجرد فرد كفء ينتمي إلى طبقة ما ويمارس عمله وحسب" (ص43). ثم يأتي بتعريفه هو للمثقف فيعرفه بأنه "فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة ما، أو تمثل وجهة نظر ما، أو موقف [كذا!] ما، أو فلسفة ما، أو رأي [كذا!] ما، وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ما وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع" (ص43).

صحيح أن سعيد كرر اسم بندا خمسا وعشرين مرة، ولم يذكر غرامشي سوى أربع عشرة مرة، إلا أنه اتكأ في تعريفه على غرامشي، وليس على بندا.

وهذا يعطي انطباعا أن رافد علي هو الذي لم يقرأ كتاب "المثقف والسلطة"، مكتفيا "بمجرد تصفح سريع للمقدمتين فيه - الأولى للمترجم والثانية للمؤلف" وبضع صفحات وفقرات متناثرة.

* يقول الكاتب أنني أتشبث "بحصر وصف المثقف بشكله المبسط، أي لمن هم من ‘‘القصاصين والروائين وكتاب المسرح والنقاد والمنظرين الأدبيين و ليسوا من أصحاب الكتب‘‘". والحقيقة أنني لم أورد هذا الكلام على أنه تعريف للمثقف. وإنما ذكرت "أن هؤلاء المهاجمين الشانئين لا ينتمون إلى الأدباء والكتاب من طراز القصاصين والروائيين وكتاب المسرح والنقاد والمنظرين الأدبيين، وليسوا من أصحاب الكتب". فهذا ليس تعريفا للمثقف، بل حصر للفئة التي تصدر عنها هذه التهجمات ضد المثقفين، والفئة التي لا يصدر منها. وبناء على هذا خصص رافد أكثر من أربعمئة كلمة، جاب فيها مجالات فكرية مختلفة، ردا على سوء فهمه لما قلت.

* يقول أنني نعت هؤلاء "بأصحاب النوايا المشكوك فيها" في آخر مقالتي. وإلى القاريء ما قلته في آخر مقالي:
"أنا أقدر النوايا الصادقة الحسنة لبعض منتقدي المثقفين الليبيين ورغبتهم في أن يكون المثقفون الليبيون فاعلين في المجتمع وفي صدارة حركته، إلا أن منطلقاتهم تنم على تشوش مفهومي ورؤية مغرقة في الرومانسية وتجافي الواقع تماما".
يبدو لي أن رافد يقرأ بالاستعانة بنظرات طبية، إلا أنه، لسبب ما، قرأ مقالي بدونها.

* في نهاية مقاله يصف رافد علي طرابلس بأنها " يحكمها الخوف والرعب". وهذا تحامل جلي على طرابلس. صحيح أن طرابلس ليست آمنة أمنا تاما، وتتحكم فيها المليشيات والتوجهات الدينية الوهابية، ولكنها ليست أسوأ من أية مدينة أخرى من المدن الليبية. بل إنها أكثر أمنا من بعض المدن الليبية. تكفي الإشارة إلى أن عبد السلام المسماري ومفتاح أبو زيد وفريحة البركاوي وسلوى بو عيقيص وسهام سيرقيوة، لم يتم اغتيالهم في طرابلس. وأن السيطرة الوهابية، متمثلة في "الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية" التابعة لها الحكومة المؤقتة، في شرق ليبيا تكتم أنفاس الناس.

أريد أن أختم بالقول أنني في مقالي الذي يرد عليه رافد "عند افتقاد الخبز نأكل الغاتوه" وجهت إليه الأسئلة التالية:
"إذا كان رافد علي يعتبر نفسه جنديا في الجيش الثقافي المفترض، فماذا فعل هو في هذه المعركة [ضد كورونا]؟. وباعتباره يعيش في فرنسا، وقريبا من إيطاليا، نرغب في أن يخبرنا بالأسلوب الذي شارك به المثقفون في هذين البلدين في معارك بلديهم ضد هذا الوباء. وماذا يقترح علي المثقفين الليبيين (في الداخل والشتات) أن يفعلوا بهذا الخصوص؟".

إلا أنه أشاح تماما عن هذه الأسئلة.

* إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ترجمة: د. محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2006.