عمر بركة: الحروفية وعوالم النسخ المخبأة

عمر بركة: الحروفية وعوالم النسخ المخبأة

الحروف تستدير في لوحات الفنان عمر بركة (بوابة الوسط)

تستدير الحروف في لوحات الفنان عمر بركة باحثة في التفاتاتها عن مسارب لإدراج آخر يشبع فضولها، دون أن يكون هناك سقف محدد لتشكلاتها، كما لو كانت كائنا وجد في نقطة ما على جسد اللوحة بعد أن كان سرا جنينيا في مداد المحبرة، يقفز ملتصقا بسجاد المخيلة وهي تحيك عالمها السحري، حاملا في قرارات تكوينه احتدامات العلائق الأولى ونتاج اختماراته اللاحقة، بين أفكار تتحضر في صمت وخطوط تترجم صهيرها.

لم يكتف الفنان بنقلاته البكر في مدارس التشكيل (التكعيبية والسوريالية والتجريدية.. إلخ) فالوجهة كانت منظورة في الأفق إلا أنها ظلت هدفا يستلزم شحذا إدراكيا تذخره المعارف، فالحروفية هي نتيجة لاحتراق وتفاعل مكونات تلك التجارب في صهير يخلص للون مغاير، ولربما نرى ملامح هذا المخاض في تدافع المشابك النصية من الحروف مع ما يقابلها من تلك المسامات المحملة ببقايا أنفاس النقلات السالفة.

صراع الحروف مع الفراغات أو المساحات الملهمة للتحبير يظل متفاوتا في درجات حضوره بين البروز النسبي والتجلي الكامل، ما يوحي بأن وهجه يجهد للوصول إلى مركز الذائقة لدى الفنان، ويحاول أن يفصح عن وجوده في تمظهراته اللونية داخل دوائر المد والجزر، ولعل الشواهد تسوقنا إلى فضاء اللوحة الحمراء التي يقف أمامها (بركة) وكأنما يحيلنا إلى زبد ذاك الصخب في وجهه الأخير.

تتفجر الحروف كنتوءات فوهات بركانية، وتتشبع المخيلة بهذا الاستفزاز، فتضع بصمتها في رتوش نصف قوسية، وإن اكتملت فهي لا تروم للوضوح، لكنها تلتمس شكلا منفتحا للتأويل، حتى إنها تسترسل في تكثيف نسيجها، مفضية إلى طيف من النسخ المتراكمة، كأنما هي تتوالد من بعضها البعض.

الألواح المختبئة
تظهر حروفيات بركة كما لو كانت طبقات من الشرائح تتوارى مسحتها خلف الأولى وينفذ إليها النظر من ثقوب واجهة الأخيرة كسفير للمكون الجامع، وتكشف تلك اللواحق الكامنة في العمق، عن حاجة النص الحروفي إلى تراسل يصله بالمتن، وهو رافد يدعم حضوره التشكيلي ويؤسس لقاعدته اللغوية وهي تتشوف لتشرب رتوش (الدواية)، والتماهي مع طموح التجربة، ناسفا الاعتقاد بجمود أو محدودية تحولاته، وجدوى مخرجاته الزخرفية وهي تلتقم النص، وتتصوره عجينا عجائبيا من الإلهامات المتماهية مع نفائس التراث، وشواغل الكتابة الصمغية وأبعادها الهندسية.

وينهض نص بركة الحروفي أيضا على قنطرة الإدراك والممارسة، جامعا بين ذهنيته العلمية القادمة من فضاء الحاسوب والفنية المتسلحة بنفائس الخطاطين الرواد، وهو هنا يقدم فلسفة هذا التمازج عبر سطوة التداخل الذي يجعلك في خانة التكهن بين القدرة على قراءة النص المموه من عدمها، كذلك إحساس التواصل بالعمل فنيا أو الوقوف أمامه برهة ثم تأمله ثانية، إنه يربطك بتلك القوى الناعمة من خيوط متفاوتة السماكة تلتحف الغموض، تتفلت أحيانا من انشدادات الأسلوب الشرقي وتتحول إلى فيض من الانطلاقات الحرة لكنها واعية بمآلات تمددها.

تقدم سطوة التداخل فرزا حروفيا مشتعلا بلهب التجريب، وكما يعكس أثر الخيال التشكيلي للفنان إبحاره في مفردات الفضاء النصي المختار، يعبر في المقابل عن مكامن سيسيولوجية تستنطق رؤية الفنان وشغفه بقاموس الريشة واللغة.