Atwasat

قطرات المصراتي.. تجليات شلقم.. وشوشات الكوني

إبراهيم حميدان الأربعاء 31 مايو 2023, 06:13 مساء
إبراهيم حميدان

هناك كتب ليبية لم تحظ، في تقديري، بما تستحقه من اهتمام من قبل النقاد، ربما لأنها لا تنتمي إلى الأجناس الأدبية المعروفة، فهي ليست مجموعات قصصية ولا روايات ولا دوواين شعرية ولا مقالات، ولا أبحاثاً أو دراسات، بل هي كتب تضم نصوصاً نثرية قصيرة، وإن اقترب بعضها من الشعر أو القصة القصيرة جداً. وهذا النوع من الكتب قليلة العدد في المكتبة الليبية، ربما لأن كتابتها ليست أمراً يسيراً، كما قد يظن البعض، فهي تحتاج ثقافة واسعة، وبراعة أسلوبية وقدرة على التكثيف والاختزال، وصبراً على تدوين تلك السطور القليلة، سطراً سطراً، عبر سنوات طويلة، كما أوضح بعض مؤلفي هذه الكتب في مقدماتهم لها.

سنعرض لهذه الكتب التي تضم ومضات تعكس تجارب كتابها في الحياة، وتتميز بلغة مكثفة تستبطن أفكاراً ومعاني إنسانية وفكرية واجتماعية إلخ، يسطرها الكاتب ليرسم خلالها خلاصة تجربة ما، أو لحظة شعورية أو مشهداً بصريا انتزعه من الواقع اليومي، فهي تأملات في الحياة والناس، علاقات الحب والصداقة، الصراع والتنافس، النجاح والفشل، الفوز والهزيمة، خيبات الأمل وتحقيق الإنجاز، فرح التواصل مع الأحبة، أو رحيلهم الموجع، إخلاص الأصدقاء أو طعنات الغدر، حلاوة الحب أو مرارة الفراق، إقبال الدنيا نحو المرء أو إدبارها عنه، المرض والموت، الفقر والغنى، تحقيق الانتصارات في الحياة أو التعثر والفشل. وقائع مفرحة وأخرى مؤلمة، لحظات السعادة وأوقات الألم، الضحك والدموع، الأحلام المترعة بالتفاؤل، والذكريات التي تجعل القلب يفيض بالأسى، كل تلك المشاعر والأحاسيس والأفكار يعتصرها الكاتب ويصوغها في أسطر مكثفة ويشحنها بمعانٍ ودلالات جديرة بالتأمل والتفكير لعل من يقرأها يجد فيها عبرة أو درساً أو متعة فكرية أو تثير فيه ذكريات قديمة وتجعله يستعيد تجاربه كي يتأملها ويفكر فيها.

قطرات من يراع... شيء رائع يا مصراتي.
في العام 1994 أصدر الكاتب والأديب علي مصطفى المصراتي رحمه الله كتاباً بعنوان: «قطرات من يراع»، ضم ومضات وتأملات وخواطر مكثفة، لا يتعدى بعضها سطراً، وبعضها الآخر بضعة أسطر، وبعضها جاء في صفحة كاملة من الكتاب. قال المؤلف في تقديمه لكتابه: «هذه ومضات وخواطر وأحاسيس منوعة... لم أتعمد الجلوس والتهيئة لكتابتها... بل هي شيء عفوي يخطر على الذهن وفي عمق الإحساس فجأة بلا مقدمات ولا تربص لها بل هي مشاعر عفوية تطرأ بلا موعد ولااستئذان» (ص 7).
أهدى المؤلف كتابه إلى ذكرى طه حسين، الذي يذكر في مقدمة الكتاب أنه زاره في بيته وأسمعه بعضاً من هذه «القطرات» في مراحلها الأولى، وأن طه حسين شجعه، وكان حينئذ لا يزال شاباً في بداية الطريق، قائلاً له بروح الأستاذ العطوف: «قطرات من يراع.. شيء رائع يامصراتي».
ويعد طه حسين أول من أصدر كتاباً من هذا النوع في الثقافة العربية فقد صدر كتابه «جنة الشوك» سنة 1945، وذكر في مقدمته كما ينقل عنه الأستاذ المصراتي «أن هذه الومضات التي يضمها الكتاب تنتمي إلى لون من الأدب موغل في القدم ويتصل بفن من القول يسمى «الأبيغراما» الذي كان في بلاد اليونان عبارة عن شكل من المقطوعات الشعرية القصيرة بها تصوير للحب أو المدح أو الهجاء وغالباً ما يكون نقداً لاذعاً وهجاء» (ص10).

طه حسين هو رائد فن «الابيغراما» في الأدب العربي وإن كان قد تحول به من الشعر إلى النثر، ولعل الأستاذ المصراتي يعد رائد هذا الفن في الثقافة الليبية بكتابه «قطرات من يراع» فلم يسبقه أحد إلى إصدار كتاب من هذا النوع الذي يبدو أنه سار به على نهج أستاذه طه حسين.
بعض قطرات المصراتي فيها إيجاز وبعضها الآخر به إطالة، وبعضها اعتمد على الحوار، وبعضها الآخر اتخذ أسلوباً قصصياً، ولا تخلو الكثير من الومضات التي ضمها الكتاب من السخرية التي عُرف بها الأستاذ المصراتي:
هذه بعض المقتطفات من كتاب «قطرات من يراع»:
- ما أجمله من خطيب ما أروعه لو أطبق شفتيه.
- سأله لماذا صفقت لهذا المطرب ذي الصوت الجحشي كأنما تخرج من اصطبل.
- أجاب: لأنه سكت فصفقت.
- مهما مشط القنفذ جلده لن يزيل خشونته.
- مطربة العرس قد تنسى اسم العروس ووجه العريس لكنها لن تخطئ في عد النقود.
- من كثرة الانحناء أصبحت الاستقامة غريبة عن قامته.
- رد الجميل مضاعفاً هو الربا المحبوب في التعامل الأخلاقي.
- نتفوا ريش البلبل فشمت الغراب، لكن ظل الغراب غراباً رغم ريشه الكثيف.
- على جدار قديم كتب سطراً بخط أزلي. الجاهل يمكن أن يتعلم ويتواضع أما «المتعالم» فلا يمكن أن يتواضع ولا أن يتعلم.
- علاج الديون بالديون كمداواة الجرب بالهرش والحك.
- الثناء الكاذب عطر مزيف قد يفرح به من فقد الإحساس وحاسة التمييز.
-التساؤل عتبة الحقيقة ومفتاحها.
- قد تموت الكلمات لكن الحقيقة تنتعش.
- قال لصاحبه: لقد برع أهل الحضارة القديمة في تحنيط الموتى. فأجابه بلا غرابة ولا تعجب: وفي عصرنا هناك من برعوا في تحنيط الشعوب.
تجليات شلقم
الأديب الشاعر والصحفي عبدالرحمن شلقم أصدر في هذا الباب كتابا بعنوان «تجليات من الضمير إلى المصير... نصوص وأقوال» ضم أقوالاً قصيرة مركزة، تأملات وحكماً، تميزت بتكثيفها اللغوي حيث نجح المؤلف في اختزال معانٍ عميقة في كلمات قليلة، عكست عصارة تجاربه، وخلاصة قراءاته وتأملاته في الحياة والناس. اتسمت لغة الومضات بشاعريتها وهذا ليس بغريب عن شاعر يعتمد لغة تقوم على الإيماء والإيحاء المفتوح على تأويلات شتى، يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: «التعبير عن كيمياء النفس البشرية يحتاج إلى كيمياء من التعبير خاصة، حالة بحالة»
من كتاب «التجليات» نقتطف بعض الومضات:
- اسأل نفسك عن حسناتك، سيئاتك يعرفها الآخرون.
- الإنسان يصبح شاعراً أحياناً، حين يصاب بعمى الحاضر.
- التفكير نبض العقل، التأمل نبض الحيرة.
- الندم جنين صامت، يتحرك في رحم المستقبل.
- الشيخوخة زمان يأتينا بعد أن نخرج من الزمان.
- لكي تحتفي بالحياة، عليك أن تعلم أنها أنثى.
- الكآبة إجازات للذات على شاطئ الصمت.
- الشعر عرس اللغة.
- القوة قد تحمي غيرها، لكنها لا تحمي نفسها.
- الحرب فكرة إبليس يُنفذها مجانين باسم الآلهة.
- الأشجار نحبها لأنها تلامس غريزة النمو فينا.
- بيني وبينك ومضة من عين، يعطيها القلب مسافة ولونا.
- إذا واعدتني فوق الجبل، علمني لغة القمم.
- أنا لك علامة إذا كنت أنت الطريق.
- قلت للحديقة صباح الخير، تبسمت لأنها تعلم أن لي موعدا معك.
- للأشجار كلام، تسمعه الحقول.
- الشريك خصم يقاسمك الأمل.
وشوشات الكوني
الروائي إبراهيم الكوني معروف بغزارة إنتاجه الروائي والقصصي ولكنه في هذا النوع من الكتب التي نتحدث عنها اليوم أصدر خمسة عناوين، أولها كان بعنوان «صحرائي الكبرى» العام 1998، احتوى مجموعة مقالات، وجاء الفصل الأخير بعنوان «وشوشة الكائنات» وضم تأملات وومضات قصيرة، ثم أصدر أربعة كتب خصصها بالكامل لهذا النوع من النصوص القصيرة وهي على التوالي: «أبيات»، «رسالة الروح»، «نزيف الروح»، «ديوان البر والبحر» تضم هذه الكتب نصوصا نثرية قصيرة، تنطوي على تأملات فكرية، تخاطب العقل والروح بكلمات تنضح بالشعر والفلسفة، وتذكرنا برواياته التي تزخر بالحوارات الفكرية والحكم والتأملات التي تعتمد لغة تقوم على السهل الممتنع، فتقترب من التصوف تارة، ومن الشعر تارة، وتغوص في قضايا فكرية وفلسفية: الوجود والموت والروح والزمان والخلان والتاريخ والقرين والصحراء والمرأة والسلطة والعلاقات الإنسانية والإبداع، وغيرها من التأملات الفكرية التي تزخر بها صفحات رواياته.
يقول الكوني في ومضاته:
-الأفكار أزهار لا تنمو إلا في حقول السكينة.
- ما هي المحنة؟
المحنة هي أن يعبر السابلة دون أن يستوقفهم وجود الوردة.
- ترتكب المرأة خطأ إذا ارتضت الاقتران برجل صارم المسلك، كاره للفوضى، عاشق للنظام، حريص على الهندام والمقام، لأن في هذا المسلك يكمن الشغف بالحرية، والمرأة لا تجد، في العادة ما تفعله إلى جوار رجل مسكون بالحرية.
- الغشاوة قدرنا؛ والمصائد هي التي تُعلّمنا الحيلة.
- المعرفةُ - السُّلطة الوحيدة التي نستطيع أن ننالها دون أن نضطر في سبيل نيلها لتدبير مكيدة أو اقتراف خيانة أو سفك الدَّم.
-لا ينبغي أن أن نبخل بالامتنان حتى على أولئك الذين لم يحسنوا إلينا
- القول آفة الفعل، لاننجز عملا سبقناه بقول.
-لا يهنأ أهل الدنيا حتى يقلبوا حسنات أحيائهم سيئات، وسيئات أمواتهم حسنات.
- الموت – ضيفنا الذي نعلم أنه سيأتي، ولكننا نحتال عليه كي يتأخر.
- من لم يتعلم الغفران، لن يأنس بالخلان.
- السلطة سعلاة لا تترك مريديها إلا أمواتا.
ذوو النفوس العبودية لا يحيون سعداء، إذا لم يجدوا من يستعبدهم.
- لو علمنا حقيقة الذين نعقد عليهم، في دنيانا، الآمال، لأدركنا أننا لسنا، في هذه الدنيا، سوى غرقى يستنجد كل منا بقشة.
- من هو الأبله الذي قال إن المرأة مخلوق ضعيف؟
- نحن، بالسجية أميل لنسيان الخير، منا لنسيان الشر.
- ما نناله بوجع، نفقده بوجع.
-لا ينبغي أن نثق في إنسان لم نرَ في عينيه طفولة.
-الثراء والنزاهة في عداء مُبين، لهذه العلّة صار عسيرا أن تنزل الثروة ساحة إنسان نزيه.
-الوطن دائماً قيمة وليس غنيمة.

المصادر:
1-علي مصطفى المصراتي، قطرات من يراع، مصراتة، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع،1994
2-عبدالرحمن شلقم «تجليات من الضمير إلى المصير.. نصوص وأقوال» طرابلس، المؤسسة العامة للثقافة، 2009
3-إبراهيم الكوني، صحرائي الكبرى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1998.
4-إبراهيم الكوني، أبيات، بيروت، دار الملتقى للطباعة والنشر، 2000
5-إبراهيم الكوني، رسالة الروح، بيروت، دار الملتقى للطباعة والنشر2001.
6-إبراهيم الكوني، نزيف الروح، طرابلس، اللجنة الشعبية العامة للثقافة 2007.
7-إبراهيم الكوني، ديوان البر والبحر، طرابلس، اللجنة الشعبية العامة للثقافةوالإعلام 2007.