يمثل التراث الغنائي ذاكرة البلدان والشعوب، ورمزا لهويتها الفنية. كما يجسد تاريخ الخصوصية الإبداعية في بُعده الموسيقي، ومفرادته من حيث الإضافات، وتفاعله مع الفنون الوافدة، وقدرته على هضمها والتماهي معها، ويبقى السؤال عن مدى حضور هذا التراث في ذاكرة الأجيال؟ وكيف يمكن حفظه من السرقات والتشويه؟ وما هي التدابير الواجبة بالخصوص؟

هذه التساؤلات وغيرها كانت أبرز المحطات التي توقف عندها الباحث أحمد دعوب في محاضرته بدار الفقيه حسن، التي نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون، وأدارها الكاتب مفتاح قناو بعنوان «توثيق التراث الغنائي الليبي.. طموح وآفاق»، مسلطا الضوء على التجربة الليبية الحديثة لجمع وتوثيق التراث الموسيقي والغنائي الليبي، التي أخذت من المؤسسة الرسمية منطلقا لها من خلال المركز القومي لبحوث ودراسات الموسيقي العربية.

محاولات جادة
وقال دعوب، في استهلال تاريخي، إنه منذ منتصف القرن التاسع عشر ميلادي انتشرت في بعض الدول الأوروبية العديد من المحاولات الجادة من الدراسات والأبحاث العلمية والتجارب التي اهتم بها الباحثون الموسيقيون ممن اعتنوا بحفظ التراث الموسيقى والغنائي بكل أنواعه وأشكاله.

وأضاف: «ذلك أسهم في انتشار الدراسات الجادة والمختصة بجمع وحفظ التراث الموسيقي وتدوينه، الأمر الذي دفع العديد من الدول إلى الإسراع لإنشاء المراكز المتقدمة بأبحاث الموسيقى، وفتح آفاق التعاون مع الأكاديميات العلمية والمعاهد الموسيقية. كما نشطت الجمعيات الأهلية، ولعبت دورا مهما في حفظ التراث الموسيقي وتدوينه بمختلف أنماطه وأشكاله».

وفي الحالة الليبية، يرى دعوب أن اتساع الرقعة المساحية لليبيا أسهم في التنوع التراثي الموسيقي والغنائي الليبي، الممزوج بخليط من الثقافات الموروثة من سكان المناطق المختلفة في ليبيا، ابتداء من مدينة طرابلس حيث فن المالوف والإنشاد الديني، والأغنية الطرابلسية وأغاني الزمزامات، إلى واحات الجفرة بالمنطقة الوسطى لليبيا، التي تضم مدن: سوكنة وهون وودان وزلة، بأنماطها الغنائية وقوالبها المتعددة وإيقاعاتها المتنوعة، وصولا للجنوب الليبي حيث مدينة مرزق مصدر الفن المرزقاوي.

واعتبر دعوب أن إنشاء المركز القومي للبحوث والدراسات الموسيقية العربية مطلع العام 1983 أولى الخطوات الرسمية الجادة لتنفيذ هذا المشروع الوطني في مرحلته الأولى، الذي يهدف إلى جمع وتوثيق وأرشفة التراث الغنائي الليبي، فضلا على ترسيخ الهوية المحلية والتعريف به وبقيمته الفنية، موضحا أن أهداف المركز تتمثل في جمع وبحث ودراسة ونشر التراث الموسيقي في ليبيا، والتعريف به، والدعوة إلى إقامة المؤتمرات والندوات والمهرجانات التي توظف التراث في خدمة الإنسانية.

وذكر أن من ضمن أهداف المركز إجراء المسوح الميدانية لجمع وتوثيق وتدوين الألحان والأغاني، وإجراء البحوث حولها، وجمع وبحث وتحقيق المخطوطات القديمة من المؤلفات التي تعنى بالفنون الموسيقى العربية. كذلك إنشاء مكتبة أدبية فنية علمية تاريخية، والعمل على تحقيق الملكية الفكرية.

- للاطلاع على العدد «455» من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

مراحل التوثيق
توقف دعوب عند أهم المحطات التوثيقية للتراث الموسيقي، وهي تشكيل لجنة جمع التراث الغنائي الأندلسي (فن المألوف) العام 1964 بقرار من وزير الثقافة الدكتور خليفة التليسى، التي ضمت نخبة من مشايخ فن المالوف، وعلى رأسهم: محمد أبو ريانة وخليفة الرماش وعلى منكوسة ومحمد قنيص، حيث جرى توثيق عدد لا بأس به من نوبات فن المالوف بالإذاعة الليبية، التي تعد الآن المرجعية الأولى لفن المالوف في ليبيا.

وفي تواصل مع الخطوة السابقة، لفت دعوب إلى ما قامت به فرقة المدائح والإنشاد الديني من إسهام فعال في توثيق فنون الإنشاد والمدح، وتسجيل وصلات من هذا الفن في الإذاعة الليبي. وكانت الفرقة تضم كوكبة رائعة من أهم مشايخ فن المديح في ليبيا، على رأسهم: فاتح النعال وعبد الباسط النعال والشيخ عبد القادر الجزيرى والشيخ خليفة الفرجاني وشعبان التركي ومحمد بن سعيدان.

كما أشار دعوب إلى استحداث المركز إدارة التوثيق والإعلام، وتكليفه بإدارتها مطلع العام 2016، لتكون نقطة الانطلاق في أولى خطوات تكوين المرجعية المثلي لتداول التراث الموسيقي والغنائي في ليبيا على أسس سليمة وصحيحة.

أغان نادرة
وعدد أحمد دعوب جانبا من أعمالها في حفظ الأرشيف الغنائي والموسيقي، ولعل من أهم هذه الوثائق المسموعة ما جرى تسلمه من «المؤسسة الوطنية للصوتيات والمرئيات» بروما - إيطاليا، وهي عبارة عن تسجيلات على أقراص CD جرى نسخها من أسطوانات طبعت في إيطاليا، وسجلت في طرابلس العام 1931، وتعتبر وثائق غاية في الأهمية، لندرتها، حيث إنها ترصد وتكشف لنا أنماط الغناء وأساليبه المختلفة التي كانت في المجتمع الطرابلسي، مثل الغناء الطرابلسي وفن المالوف، وأغاني الأفراح (فرق زمزامات)، والمولود (فرق زمزامات)، وكذا توديع الحجيج وأناشيد الطرق الصوفية «الطريقة العيساوية، وأغاني الحمالين، ونوم للأطفال، وسهر الليل (المسحراتي)».

ومن نماذج الأرشفة، أشار دعوب إلى أغنية طرابلسية سجلت في عقد الثلاثينات من القرن الماضي بصوت المطرب الشهير الطرابلسي اليهودي سيون محلولة بعنوان «شقي خاطري والعقل ما هناني». كما تعد من المفقودات في ليبيا أعمال الفنان الليبي بشير فحيمة، الذي اشتهر باسم «بشير فهمي» (1907 – 1972)، وذلك بحكم هجرته لتونس العام 1924، وكما هو معلوم له أعمال غنائية كثيرة من نظمه وألحانه وغنائه، وظلت أعماله الغنائية التي سجلها بصوته من النوادر، منها أغنية «أنا قلبي طاب من بابا»، من كلمات وألحان وغناء بشير فحيمة، التي سجلت أسطوانة خلال عقد الثلاثينات من القرن الماضي بشركة «بيضفون».

وأوضح أن هذه الوثيقة المهمة تثبت أن الأغنية للفنان بشير فحيمة، بعدما نُسبت خطأ في القطر التونسي بأنها للفنان اليهودي «آشير مزراحي».

ومن ضمن مواد الأرشيف يذكر المحاضر مخطوط الحاج على بن محمد بن عبد ربه، وكنيته «الفداوي»، المتوفى العام 1903، الذي نسخ المخطوط أواخر القرن التاسع عشر، وفرغ من نسخه أواخر شهر رجب 1303 هـ، ما يوافق مايو 1886، وطبعته وزارة الثقافة التونسية العام 1998 نسخة غير تجارية، تحوي بين طياتها كنوز فن المالوف. ونظرا إلى أهمية هذا المخطوط التاريخي، تمت الاستعانة به لاستكمال النصوص المبتورة والناقصة في المالوف الليبي، لتضاف للمرة الأولى لتاريخ هذا الفن في ليبيا.

من محاضرة الباحث أحمد دعوب حول توثيق التراث الغنائي الليبي بدار الفقيه حسن. (بوابة الوسط)

من محاضرة الباحث أحمد دعوب حول توثيق التراث الغنائي الليبي بدار الفقيه حسن. (بوابة الوسط)