لمدة 40 ساعة، خضع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي للاستجواب من قبل قضاة التحقيق للاشتباه في تمويل نظام معمر القذافي حملته الانتخابية العام 2007، وخلال أقواله التي لم تمنعه من توجيه لائحة اتهام جديدة، خلص الاستجواب إلى «سبب محرج» نظير تمويل الحملة يتعلق برئيس المخابرات الليبية السابق عبدالله السنوسي.
وفي أول مرة في تاريخ فرنسا تم توجيه تهمة «تشكيل عصابة إجرامية» إلى رئيس دولة سابق في قضية تمويل ليبي لحملة نيكولا ساركوزي الانتخابية إضافة إلى 3 تهم أخرى، بعد الاستماع إليه أيام 6 و7 و8 و12 أكتوبر الجاري.
ودافع رئيس الدولة السابق عن نفسه، وبدلاً عن ذلك ورط معاونيه السابقين دون إقناع قضاة التحقيق الذين وجهوا إليه تهمة تشكيل عصابة إجرامية لتصبح رابع تهمة موجهة إليه في هذا الملف، الذي فتحت النيابة تحقيقات بشأنه طيلة ثمانية أعوام. أما التهم الثلاث الأخرى فهي الرشوة و«اختلاس الأموال العامة» و«التمويل غير الشرعي لحملة انتخابية»، وكلها تهم وجهت إليه في مارس العام 2018.
للاطلاع على العدد الجديد من «جريدة الوسط» اضغط هنا
وفي ردود فعل مثيرة من ساركوزي، نقلتها جريدة «لوباريزيان» الفرنسية الأربعاء التي أشارت إلى استفادته من نظام القذافي من خلال جهتين تم تحليلهما بشكل مطول. وفي هذه القضية بدأ كل شيء بنشر وثيقة من موقع «ميديابارت» الفرنسي خلال الفترة ما بين جولتي الانتخابات الرئاسية للعام 2012، حيث يتحدى نيكولا ساركوزي القضاة بتقديم أي أدلة مادية تثبت تلقيه أموالاً ليبية لتمويل حملته الانتخابية.
الإقامة الليبية العام 2005
ويهتم القضاة بإقامة نيكولا ساركوزي وزير الداخلية آنذاك في ليبيا، في 6 أكتوبر 2005. ويشيرون إلى الوجود المطلق للوسيط الفرنسي اللبناني زياد تقي الدين وراء الكواليس ويعلق الرئيس السابق «لم يلعب أي دور»، قائلاً إنه لم يشعر به أبداً وهو اليوم المتهم الرئيسي. ويعود القاضي إلى كلود غيان، أمينه العام السابق في قصر الإليزيه، الذي أثبت التحقيق اجراءه اجتماعات لا حصر لها مع الوسيط حيث ذهب الرجلان معاً إلى طرابلس للتحضير لرحلة ساركوزي. وخلال هذه الإقامة التقى معاونه المخلص في حضور زياد تقي الدين، عبدالله السنوسي، رئيس المخابرات الليبية، المحكوم عليه بالسجن المؤبد في فرنسا العام 1999 لقيامه بتنفيذ هجوم إرهابي على طائرة فرنسية في العام 1989 (خلف 170 قتيلاً، بينهم 54 فرنسياً).
وأجاب ساركوزي على الاتهام بأنه لم يقف وراء هذا الاجتماع مطلقاً قائلاً «إذا سُئلت عن رأيي فيه، كنت سأقول لا بوضوح وإذا سئلت عما إذا كان خطأ نعم» متبرئاً من مستشاره قبل أن يضيف في إشارة إلى السنوسي الذي وصفه بالمجرم: «يمكنني أن أرى بوضوح فكرتك بشأن اتفاقية فساد التي كان من الممكن إبرامها مع هذا الشخص الذي كان لديه مذكرة توقيف». وأكد عبد الله السنوسي خلال التحقيق أن زياد تقي الدين لعب دور الوسيط في تمويل حملة نيكولا ساركوزي بقيمة 20 مليون يورو.
وخلال هذه الإقامة الشهيرة في 6 أكتوبر 2005، أوضح الرئيس السابق لجهاز المخابرات الليبي أن نيكولا ساركوزي والقذافي كانا سيذكران معاً هذا الدعم المالي. ولإثبات حسن نيته وافق ساركوزي على إطلاق سراح مترجم الرئيس الفرنسي الأسبق من السرية المهنية الذي رفض الكشف عن محتوى اللقاء المباشر بين الرئيسين. كما ركزت التحقيقات أخيراً على رحلة ثالثة، وهي رحلة بريس أورتفو الصديق الحميم للرئيس المستقبلي، وبحضور زياد تقي الدين التقى عبد الله السنوسي. وبحسب الاخير فإن معمر القذافي كان سيوافق على استكمال حملة نيكولا ساركوزي بمبلغ 7 ملايين يورو. ويستحضر اجتماعاً حدث خلاله تقديم أورتفو لتقي الدين بيانات حساب بنكي لا يتذكر اسمه الذي سيجري التحويلات عليه. ويوضح أن هذا الحساب يخص الوسيط الفرنسي اللبناني.
ووصف الرئيس السابق ذلك بالأكاذيب المخزية مستغرباً اتهامه بوضع أموال في حساب زياد تقي الدين، وليس في حساب خاص قائلاً: «الأثر الوحيد هو التحويلات من الحسابات الليبية إلى حسابات زياد تقي الدين لكن لم تجدوا التحويلات التي كانت ستتم لمصلحتي؟».
«نسيج من الأكاذيب والافتراءات»
ومع ذلك، أوضح زياد تقي الدين أمام قاضي التحقيق أنه سلم شخصياً ثلاث حقائب نقدية تحتوي على ما مجموعه 5 ملايين يورو إلى كلود غيان (مرتين) ونيكولا ساركوزي (مرة واحدة)، في نهاية العام 2006. ويجيب وزير الداخلية الأسبق «إنه نسيج من الأكاذيب والافتراءات والأخطاء في الوقائع»، مضيفاً: «لم يدخل أحد إلى الوزارة دون إبراز أوراقه الشخصية ودون تفتيش».
كما تم اتهام المستشار السابق لنيكولا ساركوزي في وزارة الموازنة تييري جوبير، بتلقي اموال ليبية مشبوهة على حساب في جزر الباهاما قدمها زياد تقي الدين حيث تلقى 440 ألف يورو في عام 2006. فهل هذه الأموال أفادت المرشح الرئاسي؟ يقول الرئيس السابق «لم تعد لدي علاقات شخصية مع تييري جوبير منذ العام 1996».
وفي المقابل تحدث البغدادي المحمودي رئيس الوزراء الأسبق للقذافي، عن قناة تمويل سرية ثانية تمر عبر بشير صالح مدير مكتبه. كان هذا الأخير سيعطي الأموال لكلود غيان في باريس، في حقيبة صغيرة جداً. عبد الله السنوسي يؤكد ويتحدث عن 8 ملايين يورو وأجاب ساركوزي «لم أكن أعرف بشير صالح في ذلك الوقت» معتبراً قصة الحقيبة غير صحيحة.
لغز زيارات ألكسندر جوهري
من ناحية أخرى، فإن اللاعب الآخر في الملف الليبي هو ألكسندر جوهري رجل الأعمال الفرنسي الجزائري فقد أظهر التحقيق أنه، خلال فترة الخمس سنوات، زار كلود غيان في قصر الإليزيه 59 مرة ونيكولا ساركوزي 14 مرة. ورداً على تساؤلات القضاة حول أسباب الزيارات يبرر الرئيس السابق «ألكسندر جوهري رجل مرح، متعاطف جداً جاء ليحدثني عن السياسة». أما بالنسبة للمال، فهو يعتقد مرة أخرى أن زياد تقي الدين اختلسه.
فوائد القذافي من تمويل حملة ساركوزي
ونظر القضاة أخيراً في الفوائد التي يمكن للنظام الليبي جنيها من هذا التمويل المزعوم. إذ هناك حديث عن عقد مراقبة مُنح لشركة فرنسية في مجال الطاقة النووية المدنية ولكن أيضاً الأمر الأكثر إحراجاً التدخل لإلغاء مذكرة التوقيف الدولية الصادرة عن عبد الله السنوسي بعد إدانته بارتكاب جريمة الهجوم الإرهابي. وفي نظر القضاة سيكون الوجه الدبلوماسي الآخر مع الزيارة الرسمية لمعمر القذافي إلى فرنسا في ديسمبر 2007. لكن بالنسبة لنيكولا ساركوزي، كان من المفترض أن يتم الثناء عليه لقبوله الإفراج عن الممرضات البلغاريات في يوليو من نفس العام. ويعترف وهو يتحدث عن السجادة الحمراء المفروشة أمام القذافي «لم يروقني ذلك لكنها كانت مجرد جائزة سياسية».
ولم تتمكن النيابة العامة من الحصول على دلائل قاطعة للتمويل المفترض بالرغم من تحقيق شبه متواصل خلال السنوات الثماني الماضية وتجميع شهادات لمسؤولين ليبيين أكدوا أن الرئيس الفرنسي السابق تلقى تمويلاً من المال العام الليبي في عهد معمر القذافي في العام 2007. والتهمة الخاصة التي أُضيفت الى سجل ساركوزي بتشكيل عصابة إجرامية قد تصل عقوبتها إلى عشر سنوات سجناً.
تعليقات