Atwasat

1- من أدبيات رسائل الفاخري

القاهرة - بوابة الوسط: محمد عقيلة العمامي السبت 05 يونيو 2021, 10:52 مساء
WTV_Frequency

الحلقة  «1»  جنقي صانع البهجة

نعم! تجدي الكلمات، نعم يعيش الجيد منها طويلا، ويظل «على طول المدى، عملا بالغ النبل والقداسة من أجل خلاص الإنسان، وتخليد نضاله الدائب الطويل». والكلمات الجيدة عندما تتدفق كالنهر، تترك خلفها حقولا غامرة بالخير والسلام.. وصديقنا الأديب خليفة الفاخري، لم يترك خلفه كلمات طيبة جيدة فقط، بل ترك أيضا، أصدقاء أحبهم، وهم أيضا أحبوه. يصادف هذا اليوم، الأحد الموافق 6/6/2021 الذكرى العشرين لرحيله، وبتكرر يوم الأحد: 13 و20 و27 طوال هذا الشهر، سوف نُجزئِ هذه الورقة وننشرها تباعا، فثمة أشياء حق عليَّ أن تنشر بملابساتها، وأتطلع أن يثريها بقية رفاق «جنقي» بما يرون أنه يستحق أن يعرفه الناس.

الكلمات الجيدة عندما تتدفق كالنهر، تترك خلفها حقولا غامرة بالخير والسلام

 مصادفة  مؤثرة بالنسبة إليَّ انتبهت إليها، بعد رحيله بسنوات. لا أخفي تعجبي فقط منها عندما اكتشفتها، ولكن رهبة وخوف تملكاني، فلقد أحسست كأنها رسالة غيبية تفرض أن أكون بحجم الود والتقدير والمحبة والاحترام، الذي خصني «جنقي» بها، ومن ورائه إخوته، بل عائلته كافة. الرهبة تملكتني عندما عدت إلى كتبه بعد سنوات من رحيله لأكتشف أن إهداءه لي كتابه «غربة النهر»، المحرر بخط يده وهو حي يرزق كان يوم 6/6/94 وهو قبل يوم وفاته بسبع عشرة سنة! وبالطبع لا يخفى عليكم أن6/6 هو يوم وفاته. وفي الطبعة الثانية من كتابه «موسم الحكايات» كان الإهداء بتاريخ 16/6/1998 وهو قبل شهروفاته بثلاث عشرة سنة! أما كتابه الثاني فقد مهره بإهداء وثقه تماما مثلما وثق إهداء «موسم الحكايات» لوالده رحمه الله، وإهداء «غربة النهر» لصديقنا الأستاذ محمد حسين كانون.

الرهبة بسبب أنني لم أقم بواجبي تماما تجاه ما أعرفه عنه، فلقد أنجزت كتابي «منابت الريح » بسرعة لأنني وددت ألاّ ينساه الرجال، خصوصا رجال الدولة آنذاك، فلقد كان همه قبيل رحيلة هو علاج ابنه محمد من حالة  التوحد، وكانت هناك اتصالات جارية بشأن علاجه في الأردن، ولكن ذلك لم يتم من خلال الدولة، وإنما تم من خلال رفاقه وأخوته، وإن كانت قد تولت في مرحلة متأخرة جزء من العلاج. كتابي لم يكن شاملا للكثير من الأشياء والأحداث التي يتعين توثيقها، ولم يصل الناس بالصورة المرجوة. فكان مصادفة التواريخ كانت، وكأنها رسالة شخصية لي من العالم الآخر تنبهني، أن ما أعرفه عنه أمور كثيرة، خصوصا بشأن «كلماته» التي كانت تعني بالنسبة إليه أمرا بالغ الأهمية، بل بدرجة اعتقدت مرات أنه مبالغ فيها.

«ثعبان الليل» من روائع ما كتب

في تقديري، مثلا، أن حكايته «ثعبان الليل» من روائع ما كتب، قرأتها وظلت فترة في درج مكتبه، وبعد إلحاحي على نشرها، قال لي: «خذها انشرها..» وتمتم: «إن لقيت من ينشرها». أخذتها إلى الأستاذ محمد على الشويهدي، كان حينها يترأس مجلة الثقافة العربية. قرأها ثم طواها، وسألني إن كنت قد قرأتها؟ أجبته: «بالتأكيد». ضحك وقال: «وأحضرتها لي؟ وأنا لم أرك منذ فترة؟ ثم تأتي إليَّ بـهذا (اللغم)»، سألته متعجبا، وصادقا: «لغم؟». أجاب بنعم واستطرد: «ولكنني سأنشرها..» وسألته: «أي لغم تتحدث عنه؟» أجابني: «سأنشرها، وأخبرك عنه بعد النشر». وظننت أنه يمزح، ولم أعر ما قاله اهتماما، حتى إنني لم أخبر خليفة بها. فلقد ظللت طويلا أحاول إقناعه بالعودة للعمل مصححا لغويا بالمجلة، من بعد سوء فهم حدث أثناء عمله. ونشرت القصة. وأخبرني الأستاذ محمد الشويهدي عن الرمز الذي لم أنتبه إليه، وهو توظيف اسم الابن «فرج» وتكراره بتواصل السرد: «سيأتي فرج.. سيأتي فرج» حينها فقط انتبهت إلى الرمز، وهو إشارة إلى أن الله سيفرج عن الناس، حدث ذلك أثناء تأزم علاقات ليبيا الخارجية مع العالم. والثقافة العربية ليست منتشرة في بنغازي بقدر انتشار جريدة «أخبار بنغازي»، التي تصدر يوميا، فذهبت بالقصة إليها، من بعد أن أقنعت الفاخري بذلك، وأخبرني أنه كثيرا ما يجد أخطاء لغوية من بعد صدورها، وهو يختنق من اكتشافه أية أخطاء فما بالك في مقالة له، وأكدت للأستاذ سالم العبار رئيس التحرير وجهة نظر الفاخري، فأكد أنه سيهتم شخصيا بتصحيحها، ونشرت القصة، وجئت إلى بيته صباح نشرها، وجدت عدد من الجريدة  أمامه، كان قد أحضره له صديقنا عصام الجهمى ، الذي كان حينها مديرا لمطابع الثورة، وصديق الفاخري وأيضا جاره بالعمارة نفسها. شربنا معا قهوتنا الصباحية، وتباهيت أن القصة نشرت من دون أخطاء، فضحك -رحمه الله- وقال: «فيه خطأ وسنذهب سويا لأعرف من غير الكلمة الخطأ!». أخذ معه مرجعا لغويا وذهبنا إلى الأستاذ سالم العبار، الذي أحسن استقبالنا، وتبادلنا التحايا والذكريات، فيما تواصلت قفشات، وتعقيبات الفاخري الساخرة المعتادة. ولما قال الأستاذ سالم: «أهو المقال نزل كما تريد.. مصحح وراجعته بنفسي!» ضحك خليفة: «لكن فيه خطأ في كلمة واحدة، إنها في سؤالي: هل تجر بها نروجك؟» ونروج كتبت روجنك! وتناقشا معا واتضح أن المتعارف عليه في بادية شرق ليبيا هو هذا الاسم، لألة حصد السنابل، وهو ما جعل الأستاذ سالم يغير الكلمة.  

كانت نيتي أن اهدى كل حلقة من هذا العمل إلى صديق من أصدقائه، وكانت النية أن هذه الحلقة إلى صديقنا الدكتور عمر العفاس لسبب سوف تقفون عليه لاحقا في موضوعنا هذا. ولعل من يعرف «جنقي»، يعلم أن أصدقائه كثيرين، وبسبب حميمية علاقته بهم يصعب كثيرا فرز معارفه من أصدقائه ورفاقه، قد يقول أحدنا: «صحيح أنهم كثيرون، ولكن المرء يستطيع أن يحدد الخُلص منهم..»، ولكن ذلك يصعب أيضا، لأنه يتعامل، ليس معهم فقط، بل مع أغلب الناس، وقد لا أبالغ عندما أقول جميعهم بمستوى -إنساني- واحد، قوامه الود والتقدير والاحترام، والكثيرون من رفاقه يتعجبون من تنوع رفاقه! فمنهم المثقف، والرياضي، والجار، والبقال والخضار، ورفيق العمل والجزار، ومعارف سفرة أو سهرة، باختصار شديد: كل من عرفه، ووجد فيه «إنسانية حقيقية» أصبح صديقه!

وهبه الله موهبة خارقة في معرفة الناس

هذا التنوع الذي لم أنتبه إليه إلا عندما وضحه، وفسره الصديق الدكتور عمر العفاس، في برنامج نفذته «الوسط»، تحدث من خلاله عن علاقته بصديقنا «جنقي»؛ عندما فسر نقطة غاية في الأهمية، وهي قدرته على خلق ألفة، ليس بينه وبين الآخر فقط، وإنما بين من ينتقيهم كأصدقاء له، ثم سريعا يجعل منهم أصدقاء لأصدقائه، على الرغم من اختلاف تخصصاتهم ومهنهم !

لقد وهبه الله موهبة خارقة في معرفة الناس، فطول عمر علاقتي به، ما رآه وما أخبرني عنه في إنسان إلا واكتشفت حقيقة ما وصل إليه، ولو بعد حين، على الرغم من اختلافي أحيانا معه، في بداية معرفتي لهذا الشخص، لكن طول العشرة تبين لي حقيقة ما رآه ولم أنتبه إليه. لا أذكر أن فراسته في معرفة الناس خذلته، ومع ذلك يظل ظاهريا يتعامل، مع المتأزمين مثلا، بود وطيبة، كأنهم أصحابه، غير أنه كثيرا ما كان يحذرنا، أو على الأقل، يحذرني أنا شخصيا، ممن نظن أنهم أصحابه. بعد رحيله، علمتُ من معظم «الخُلص» أنه كان يحذرهم هم أيضا! ولكن، وهذا حال يعرفه القريبون منه، يصعب كثيرا، أن يعود منهم مثلما كان، عندما يسيء أحدهم إليه، خصوصا إن مست هذا الإساءة إنسانيته.

الإنسانية الحقيقية، التي لا تشوبها شائبة هي معياره للصداقة

كان يرى بما وهبه الله من فراسة، وبوضوح، معادن الناس، فلا تقف بينه وبين صداقتهم حواجز بسبب ظروفهم، لا الاجتماعية ولا التعليمية، ولا المادية. كان يؤسس تصنيفه على معيار صارم، وهو إنسانيتهم، وخلو سريرتهم من أحقاد، وأمراض نفسية، وبناء على هذه المعرفة، كثيرا ما اجتمعنا، بمختلف أطيافنا، دكاترة، ومثقفين، وحواتين، وحرفيين، وأثرياء، وفقراء، وأطباء، ورجال أمن! لا أبالغ إن قلت ليس هناك فئة لم يصبح منها رفيقا له، ثم لنا، وكثيرا ما التقينا بتنوعنا من دون أي إحساس بهذه الفروق. سهراتنا، ورفقتنا تواصلت سنوات، وكانت في الغالب تجمع لفيفا من كل هؤلاء الناس، وعندما أتمعن كيف حدث ذلك؟ أجد أن «جنقي» وراء هذه العلائق! هو من جمعنا، وهو من أذاب الفوارق، لقد ربطتنا الإنسانية فقط، فكانت علاقات صادقة وحقيقية.

الإنسانية الحقيقية، التي لا تشوبها شائبة هي معياره للصداقة، وهي التي يراها تربط الناس بالناس، وبروحه المرحة القادرة على خلق البهجة والبسمة ظل يصنع الفرح أينما يحل. لم تكن هذه القدرة مقتصرة على رفاقه، وأصدقائه فقط، لكنها تتعداهم إلى كل من يقترب منه، البقال، والجزار والخضار، والحلاق، والخفير والمدير، و«بائع الفل»!.

قدرته فائقة في خلق هذا الفرح المتنقل مع مختلفي الميول والأعمار، أطفالي، مثلا، ورفاقهم من أطفال الشارع ينطلقون نحو عربته بمجرد أن تظهر في أول الشارع! ويتحلقون حوله كأنه ملاك الفرحة الذي ينتظرونه! ويحكون له ما يفرحهم وما يحزنهم، بل يشتكون إليه مني!

ينشر الفرحة والبهجة والابتسامة أينما حل!   

الترحيب والتهليل يرافقنا ما إن ندخل مؤسسة حكومية أو مستشفى أو أي تجمع كان؟ سوى أنهم يعرفونه مسبقا، أو أنهم سرعان ما يصبحون أصحابه. كانت الفرحة والبسمة والترحيب كأنها جزءان، واحد يحمله والثاني ينتظره، وما إن يصل غايته حتى يلتقيا وتعم فرحة يعرفها كل من عرف «جنقي».

ذات مرة، غادرنا مصرفه بوسط البلاد، وكان الموظفون يناكفونه ويمازحونه ويهونون عليه، لأن مرتبه لم يصل البنك. وعلى الرغم من خيبته وتكدره، فإنه ظل يمازحهم حتى غادرنا المصرف. كان هناك متسول يفترش ركنا في مواجهة المصرف، وما إن خرجنا من الباب حتى بالغ في رفع يده، مستجديا صدقة منه. انحنى جنقي أمامه، وقال له مازحا: ماذا لو تسلفني عشرين جنيها، وأعطيهن، بعدما ما ينزل مرتبي، للخضار عبدالرازق، الذي وجدتك عنده، الأسبوع الماضي واشتريت التفاح، والموز! بهت الرجل! لكن جنقي استمر يمازحه إلى أن أفاق من صدمته. أخبرني فيما بعد بيني وبينه: رأيته يشتري تفاحا، وهو عندي، كما تعلم من المحرمات! لم يخطر بباله أن جنقي التقاه ذات مرة عند نفس «الخضار» في سوق الكيش! ولقد أصبح صديقه، وصار يبشره بوصول المرتب من عدمه، وكان يناكفه بمرحه المعهود كلما جاء إلى المصرف، فيقول له : «أنقولها؟!» فيضحك المتسول، الذي حضر مأتمه وطوقني باكيا، قائلا: «خسارة. خسارة، عليك راجل خيره!».

خليفة الفاخري الإنسان، الساخر والصابر الحكيم البليغ.

لا أعتقد أن أحدا عرف خليفة الفاخري واقترب منه لا يعرف قدرته الفائقة على نشر الفرحة والبهجة والابتسامة أينما حل! مر على رحيله عشرون عاما وما زلنا كلما نلتقي -نحن رفاقه- نستعيد إطلالاته وبهجته وضحكته الصادقة النابعة من أعماقه، وروحه النقية المرحة المحبة للناس والأطفال والجمال والفرح، ومن منا لا يتذكره من دون سعادة تصل حد البهجة؟

هذه هي شخصية خليفة الفاخري الإنسان، الساخر والصابر الحكيم البليغ. وسؤالي الذي سبق أن سألته إياه شخصيا، وسألت والديه، وإخوته، وأصدقاءه، والبقال والخضار، الذين كان يستدين منه والذي رفض وأقسم بأن خليفة ليس مديونا له، وأنا أعرف غير ذلك! ما سر هذه الروح؟ التي إن كتَبتْ المأساة، ينزف الحزن من بين حروفه! وإن اقتنع بإنسان وأحبه في الله يكتب فيه مدحا يصل حد الألق. ما سر هذه الروح التي «تتنفس محبة، وبهجة؟». ما سر هذا الحزن والمرارة في كلماته عندما يكتب؟». سيكون هذا هو السؤال، الذي سأحاول الإجابة عنه، من خلال بضعة رسائل بعثها لأصدقائه محاولا قدر المستطاع توضيح ملابسات كتبتها وإرسالها، منها ما نشر، ومنها لم ينشر. وتجدر الإشارة إلى أننا أعددنا عددا من ملصقات -كولاج- ضم كل منها صورا لرفاقه، وأصدقائه، ومعارفه، وتعمدنا أن تكون الابتسامة هي العنوان، ونعتذر مسبقا، إن غفلنا عن صورة لأحد ما، والسبب في الغالب، أننا لم نجد له صورة تليق به. نلتقي بعون الله الأحد القادم.

 

فكرة هذه الحلقة من صديقي وصديق جنقي الدكتور عمر العفاس
فكرة هذه الحلقة من صديقي وصديق جنقي الدكتور عمر العفاس
يوم إهداء غربة النهر إعلان عن يوم وشهر وفاته
يوم إهداء غربة النهر إعلان عن يوم وشهر وفاته
إهداء كتابه بيع الريح
إهداء كتابه بيع الريح
عربة النهر أهداه لصديقنا محمد حسين كانون
عربة النهر أهداه لصديقنا محمد حسين كانون
موسم الحكايات اهداه إلى والده صديق جنقي وصديقي أصدقائه كافة
موسم الحكايات اهداه إلى والده صديق جنقي وصديقي أصدقائه كافة

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
من منصة التتويج في «البندقية».. مخرجة يهودية تندد بالإبادة الإسرائيلية في غزة
من منصة التتويج في «البندقية».. مخرجة يهودية تندد بالإبادة ...
100 فنان أفريقي يعرضون لوحاتهم في معرض تشكيلي بجوهانسبرغ
100 فنان أفريقي يعرضون لوحاتهم في معرض تشكيلي بجوهانسبرغ
بالصور والفيديو: انطلاق النسخة الأولى من مهرجان «تجرهي الدولي للمهاري»
بالصور والفيديو: انطلاق النسخة الأولى من مهرجان «تجرهي الدولي ...
إعلان الفائزين في سباق المهاري الدولي الأول ببلدية تجرهي لعام 2024
إعلان الفائزين في سباق المهاري الدولي الأول ببلدية تجرهي لعام ...
ألمودوفار الفائز بـ«الأسد الذهبي» في مهرجان البندقية: «فيلمي باللغة الإنجليزية.. والروح إسبانية»
ألمودوفار الفائز بـ«الأسد الذهبي» في مهرجان البندقية: «فيلمي ...
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم