Atwasat

ومازالت ليبيا تركض مع الذئاب

سالم العوكلي الثلاثاء 12 يناير 2021, 09:18 صباحا
سالم العوكلي

أعكف الآن على قراءة الكتاب الأهم في رصد ولادة الدولة الليبية العسيرة نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات (استقلال ليبيا والأمم المتحدة: حالة تفكيك ممنهج للاستعمار) تأليف أدريان بيلت، مفوض الأمم المتحدة في ليبيا. ترجمة: محمد زاهي المغيربي. وعطفا عن ما تطرقت له في المقالة السابقة حول الحتمية التاريخية، أو الفكرة الدارجة عن التاريخ الذي يعيد نفسه، سأعيد، حرفيا أو بتصرف، سرد بعض الأحداث المهمة في تلك الفترة، التي يعاد تدويرها الآن، لأنه رغم اختلاف المرحلة، مازالت الأسباب قائمة:

أدت هزيمة إيطاليا إلى وضع ليبيا تحت الإدارة العسكرية البريطانية (في برقة وطرابلس) والإدارة العسكرية الفرنسية (في فزان). لكن صراع الكبار على التركة الإيطالية استمر، ويسجل أدريان بيلت أنه "في اجتماع بوتسدام في يوليو 1945، أصدر الثلاثة الكبار ــ المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي ــ تعليمات إلى مجلس وزراء الخارجية، الذي شُكل في نفس المناسبة، بخصوص الاستمرار في العمل التحضيري الضروري لتسويات السلام، وأصبح الطريق إلى الأمام متحررا من أي التزامات، باستثناء الموقف المعلن للمملكة المتحدة في ما يتعلق ببرقة على وجه الخصوص وبكل المستعمرات الإيطالية على وجه العموم". قبل ذلك بخمسة أشهر، في مؤتمر يالطا فبراير 1945، جرى نقاش في ضوء المؤتمر القادم للأمم المتحدة حول التنظيم الدولي المقرر عَقْدُه في سان فرانسيسكو من 25 أبريل إلى 26 يونيو من ذاك العام، حول إمكانية وضع الأقاليم غير المحكومة حكما ذاتيا تحت نظام الوصاية. ودخل ميثاق الأمم المتحدة الذي وقع عليه خمسون عضوا في 27 يونيو 1945 حيز النفاذ في 24 أكتوبر من نفس العام.

ونتيجة لذلك، عندما اجتمع وزراء خارجية القوى العظمى الأربع ــ قوى بوتسدام الثلاث ومعها فرنسا ــ لأول مرة، من 11 سبتمبر إلى 2 أكتوبر 1945 في لندن، للبحث في كيفية التصرف في المستعمرات الإيطالية السابقة، وعلى رأسها أقاليم ليبيا، لم يكونوا مشغولين بأهدافهم ومصالحهم المتعارضة فحسب، بل أيضا بمشكلة كيفية التوفيق بينها وبين روح الميثاق ونصه.

في مؤتمر بوتسدام تحدث ستالين عن رغبة بلاده في بعض الأقاليم الخاضعة للدول المهزومة، وكان المقصود بها الأقاليم الإيطالية، وتأكد ذلك عندما اقترح الاتحاد السوفياتي أن يكون وصيا على إحدى المستعمرات الإيطالية، مفضلا أن تكون طرابلس. وكان رد تشرشل : أنا لم أفكر في إمكانية أن يرغب الاتحاد السوفياتي في الحصول على قطعة كبيرة من الشاطيء الأفريقي. فرنسا التي لم تكن تميل إلى الوصاية على أي جزء من ليبيا تفضل الوصاية الإيطالية بدلا من وصاية جماعية، أما الولايات المتحدة التي لم تكن حتى تلك اللحظة مثقلة بأي ماض استعماري تحدد موقفها مسبقا عبر تعزيز وضعها هناك من خلال إنشاء قاعدة جوية قرب مدينة طرابلس بموافقة بريطانيا.

أثناء مناقشات مجلس وزراء الخارجية في لندن في سبتمبر 1945 طالب الاتحاد السوفياتي بتقسيم ليبيا إلى أربعة أجزاء بدل ثلاثة بحيث يدير كل جزء أحد الأربعة الكبار، "على أن يكون إقليم طرابلس تحت الإدارة السوفياتية، أما فرنسا فقد أيدت من جديد عودة الأراضي الليبية إلى إيطاليا، الأمر الذي رفضته بريطانيا بشدة، واستحضرت وعدها أثناء الحرب للأمير إدريس بأن برقة لن تعود مطلقا للهيمنة الإيطالية. واقترحت الولايات المتحدة وصاية جماعية من الأربعة الكبار لمدة عشر سنوات تحت رعاية الأمم المتحدة، وبعدها تصبح ليبيا مستقلة".

في الاجتماع الثاني في باريس 25 أبريل 1946 كان ثلاثة من الكبار قد غيروا موقفهم، فأصبحت الممكلة المتحدة تؤيد الاستقلال الفوري لليبيا موحدة، أما الاتحاد السوفياتي فقد رفض الاقتراح البريطاني، مقترحا بدلا من ذلك نظام وصاية جماعي معقد: لمدة لا تزيد عن 10 سنوات، سوف توضع المستعمرات الإيطالية تحت نظام الوصاية الجماعية من دولتين: الاتحاد السوفياتي مع إيطاليا بالنسبة لطرابلس، وإيطاليا مع أمريكيا أو بريطانيا بالنسبة لبرقة. و "عندما رُفض هذا المقترح بقوة، تخلى الاتحاد السوفياتي عن مجمل فكرة وصاية الأربعة الكبار الفردية، ونتيجة لانتباهه للاحتمالات التي سوف تبرز من انتصار الشيوعيين في الانتخابات الإيطالية العامة الوشيكة، فقد أيد عودة ليبيا إلى إيطاليا ولكن تحت الوصاية". "كذلك الولايات المتحدة تخلت عن فكرة الوصاية الجماعية، وأصبحت تؤيد الوصاية الإيطالية على ليبيا، بشرط وضع تاريخ محدد لاستقلالها. ووافقت فرنسا، التي كانت تأمل في الاحتفاظ بفزان، على هذا الاقتراح بشرط عدم تحديد تاريخ للاستقلال. أما المملكة المتحدة فلم تكن لتوافق إلا بشرط استثناء برقة ووضعها تحت الوصاية البريطانية".

في مؤتمر السلام الذي عقد في 23 سبتمبر1946، نشر المؤلف فيما يخص الشأن الليبي جدولا يبين مواقف الدول المشاركة بشأن مصير التركة الإيطالية: مواقف أستراليا، كندا، نيوزيلندا: وضع المستعمرة الإيطالية السابقة (ليبيا) تحت وصاية المملكة المتحدة. مواقف: البرازيل، روسيا البيضاء، تشيكوسلوفاكيا، إيطاليا، بولندا، أوكرانيا، يوغوسلافيا: وضع المستعمرة تحت وصاية إيطاليا. مواقف: بلجيكيا، الهند: وضع المستعمرة تحت إدارة مباشرة من الأمم المتحدة، أما الصين فكان موقفها الاستقلال الفوري، وباكستان: موحدة تحت الحكم السنوسي، مع رعاية أممية بمشاركة مصر. اتحاد جنوب أفريقيا: طرابلس وبرقة تحت الوصاية البريطانية، فزان تحت الوصاية الفرنسية.
وأمام هذه العراقيل والخلافات الحادة على الميراث الإيطالي "انتقلت في 15 سبتمبر 1948 مهمة تحديد مصير المستعمرات الإيطالية السابقة من القوى الأربع إلى الجمعية العامة (الأمم المتحدة)، الهيئة التي لا يوجد بها حق الفيتو، التي كانت تتكون حينها من 58 عضوا يتخذون قراراتهم المهمة بأغلبية الثلثين على أساس المساواة في التصويت". وللالتفاف على هذا التغير الجذري التقى وزيرا الخارجية البريطاني والإيطالي في لندن، 10 مارس 1949، وصاغا مشروع بيفين ـ سفورزا، الذي يقضي بوضع أقاليم المستعمرة السابقة تحت الوصاية الثلاثية: بريطانيا على برقة، فرنسا على فزان، إيطاليا على طرابلس، وقدم بتاريخ 17 مايو 1949 إلى منظمة الأمم المتحدة لتمريره، لكنه لم ينل ثلثي الأصوات المطلوبة بعد أن كسب الوفد الليبي صوت هاييتي في آخر لحظة.
وبعد مداولات عديدة استطاعت الوفود الليبية انتزاع قرار استقلال الدولة الليبية الموحدة، وكانت الوفود الليبية المشاركة: المؤتمر الوطني البرقاوي ــ المؤتمر الوطني الطرابلسي ــ حزب الاستقلال الطرابلسي ــ الجماعة اليهودية في طرابلس. "وعندما اجتمعت الجمعية العامة للتصويت النهائي في جلستها ظهيرة 21 نوفمبر 1949 تبنت الجمعية القسم (أ) من القرار 289 (4) بموافقة 49 عضوا بدون أي اعتراض، مع امتناع 9 أعضاءعن التصويت. وهكذا منح الشعب الليبي الفرصة للإعداد لاستقلاله ولتحديد شكل دولته المستقبلية". وهكذا وصل مؤلف هذا الكتاب الضخم والمهم إلى ليبيا ليشارك في بناء أول دولة وطنية ليبية ويصبح جزءا من تاريخها.

ما نلاحظه بعد 70 سنة من هذه الأحداث المفصلية:
في معظم المحادثات والمؤتمرات بشان مصير (المستعمرة الإيطالية السابقة) غاب اسم ليبيا وحلت محله أسماء الأقاليم الثلاثة، كما غاب الليبيون عن كل هذه الاجتماعات والمخططات. ولم تعد ليبيا والليبيون للمشهد إلا بعد عودة ملفها إلى منظمة الأمم المتحدة.
الدول التي تتقاذف مصير الليبيين تقريبا هي نفسها الآن، مع إضافة تركيا، التي عاودتها أضغاث الخلافة والحنين إلى مستعمراتها السابقة. وحضورها الآن بقوة في أحد الأقاليم يفسر التواطؤ بينها وبين روسيا التي خسر اتحادها السوفياتي آنذاك رهاناته على قطعة من ليبيا الممزقة.

التبدل في بنية منظمة الأمم المتحدة، حيث سحَبَ َمجلس الأمن ممثلا في (الأربعة الكبار + الصين) دائمي العضوية صلاحيات الجمعية العامة، والخلاف القائم بينهم حتى الآن هو الذي يعرقل دور المنظمة في ليبيا، التي تحولت جمعيتها العامة إلى مجرد جمعية للأعمال الخيرية.

بعد 70 سنة نعود للمربع نفسه، ولأطراف الصراع نفسها، ولكن بمعطيات وأهداف مختلفة، والفارق بين ذاك الجيل الذي تصدى لهذه الأجندات، والجيل الراهن الذي أصبح جزءا من هذه الأجندات، فارق بين نخبة وطنية كان هاجسها الاستقلال ووحدة الدولة في أرض كانت فقيرة، وبين أطراف أنتجها الانقسام الحالي،هاجسها الاحتفاظ بالمناصب والصراع على الثروة في أرض أصبحت غنية. جيل من الساسة الأولين عمل على تفكيك الاستعمار وتوحيد الدولة، وجيل حالي يعمل على تفكيك الدولة وجلب الاستعمار.

* كل العبارات بين علامتي التنصيص" " من كتاب (استقلال ليبيا ـ حالة تفكيك ممنهج للاستعمار) تأليف: أدريان بيلت، مفوض الأمم المتحدة. ترجمة: محمد زاهي المغيربي. منشورات: مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة بالتعاون مع: كلام للبحوث والإعلام.