Atwasat

في مديح العصيدة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 27 ديسمبر 2015, 10:50 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

العصيدة حلوى الفقراء وفرحهم، وتسلية المترفين وخيطٌ من خيوط الصلة التي يبقون عليها مع التراث. رهافتها وليونتها تجعلها مطواعة متكيفة مع أصابع الآكلين، فلا يحتاج الآكل إلى جهد اللي والمعس والمعص، وزيتها، أو زبدتها أو سمنها، وما يلتصق بها من رب أو عسل أو ذوبِ سكر يسهل انزلاقها في الحلق باثة فيه، وفي الفم قبله، انتعاشا وعذوبة، خاصة إذا كانت دافئة، أو ساخنة في يوم شتائي مشتد البرد.

فحميمية العصيدة وسخاء العذوبة الذي تكتنزه يبدأ من أول ملامسة الأصابع لها ولا ينتهي عند استقرارها في المعدة.

العصيدة الليبية، وكذلك التونسية، تصنع من دقيق القمح اللين الذي يطلق عليه اسم"الفارينا"، والعصيدة المتقنة تكون خالية من"شرانق" الدقيق المتراكم على نفسه ناجيا من تغلغل الماء إليه وتجانسه مع بقية العجين.

شرانق الدقيق تفسد رونق العصيدة وتحبط الشهية إذ تبدو مثل الكبد المريضة التي تنتشر فيها الشرانق أو الحويصلات البيضاء. لعل ذلك يرجع إلى نوعية الدقيق أو عمل العاصد أو العاصدة أو خطأ ما في خطوات الإعداد.

في ليبيا يرتبط حضور العصيدة بيوم الجمعة والولادات الجديدة والنفاس وذكرى المولد النبوي

في أسرتنا(عندما كانت أمي متمتعة بصحتها، وقبل أن يذهب بعضنا مذاهب أخرى) كان التقليد، أو"السبر" أن يكون السحور طيلة شهر رمضان عصيدة، ومبرر ذلك أنها خفيفة على المعدة سهلة الهضم لا تسبب العطش ولا تجعل المرء يتجشأ. لم نكن في أسرتنا نحبذ تناولها مع الزبدة أو السمن وإنما بزيت الزيتون.

أحيانا نادرة تحلى بالعسل، وأحيانا بالرب(وعندي أن الرب أمثل تحلية للعصيدة، مثلما أن النعناع أمثل تنكيه للشاي، وليس المريمية التي يهواها صديقي الشاعر عاشور الطويبي) وكثيرا ما كانت أمي تعوض هذين الترفين بسكر محلول يبدو ذوبه شبيها بالعسل ويعطي طعما لذيذا.

والعصيدة أكلة عربية قديمة منتشرة في أقطار عربية عدة(على اختلاف في موادها وما يضاف إليها) مثل ليبيا وتونس والسودان واليمن وعمان والسعودية...، وفي اللسان:"عصد : العصد : اللي ، عصد الشيء يعصده عصدا فهو معصود وعصيد : لواه ، والعصيدة منه ، والمعصد ما تعصد به". ويعرفها بأنها:"دقيق يلت بالسمن ويطبخ."

في ليبيا يرتبط حضور العصيدة بيوم الجمعة والولادات الجديدة والنفاس وذكرى المولد النبوي. أي أنها ترتبط بالبركة(متمثلة في يوم الجمعة والمولد النبوي) والخصب والنماء والمستقبل(متمثلا في النفاس والمواليد الجدد) وحضورها في ذكرى المولد النبوي يمثل، في اعتقادي، عملية استعادة لاشعورية للحظة إطلالة النبي على الدنيا وتجديدا لهذه الولادة والحضور النبوي، فكأن النبي يولد كل سنة ميلادا جديدا.

فلماذا يخرج علينا أناس، من وراء التاريخ، ليحَرِّموا عادة شعبية بسيطة ارتبطت بالمولد النبوي متمثلة في تناول العصيدة بالمناسبة ويحْرِموا الناس من مظهر فرحي حميم؟! أي اعتداء على العقيدة في هذا وما الخطر الذي يمثله على الإسلام والمسلمين؟! والتعلل بالحديث عن البدع سيشمل كل مناحي الحياة، بما في ذلك وجود رجال الدين ومنصب المفتي ومؤسسة دار الإفتاء، فكل هذه الأشياء مشمولة بمفهوم البدعة، ولا يؤثر في هذا تقسيم البدعة إلى سيئة وحسنة، فالحسن والسيء، في مثل هذه المسائل، مفهوم نسبي.