Atwasat

الوداع يا فوزي

سالم العوكلي الثلاثاء 03 سبتمبر 2024, 05:15 مساء
سالم العوكلي

حين يرحل أحد المقربين عادة ما تبكينا الذكريات التي تتداعى بمجرد سماع الخبر، فيمتزج الحزن بالحنين بألم الفقد.

يوم الثلاثاء الماضي دخلت كما أفعل نادرًا على «الفيس بوك» ووجدت خبر رحيل صديقي فوزي الشلوي في صباح اليوم السابق على جدار إحدى الصديقات المشتركات، فتيبست أصابعي وانهارت دموعي مباشرة مع تداعي سيل من الذكريات.

كان فوزي في صباه نجم قريته والقرى المتاخمة، بقامته النحيلة، وشعره المسترسل على كتفيه، وذكائه في الدراسة، ومهارته في كل الألعاب الرياضية، وربما أيضًا لشبهه بعازف الجيتار في فرقة البيلتز الليفربولية «جورج هاريسون» التي اجتاجت بموسيقاها وهندامها كل أصقاع العالم وحتى في القرى النائية.. التقيت فوزي الشلوي في بداية المرحلة الثانوية في القسم الداخلي بثانوية مدينة القبة، وتقاربنا سريعًا بسبب اهتمامنا في تلك الفترة بالشعر، وبالشاعر نزار قباني خصوصًا، وتبادلنا الخواطر التي نكتبها سريعًا، وكان خطه الجميل المتناسق يزيد خواطره جمالًا وأناقة، تشبه أناقته حين يلعب كرة القدم، أو الكرة الطائرة، أو كرة تنس الطاولة التي كان ماهرًا فيها جدًّا، وكانت هذه اللعبة أيضًا شغفنا المشترك.
بعد سنوات قليلة صرنا نتقابل كخصمين في مباريات كرة القدم، كان يلعب في مركز قلب الدفاع في نادي العهد الجديد آنذاك بقرية الأبرق، وكنت ألعب في خط الهجوم في نادي (عين جالوت) بقرية القيقب، ولأن القريتين متجاورتان تولد بينهما تنافس في كل شيء، وكانت هذه المباريات حساسة جدًّا، ويحضرها جمهور معقول، وباعتبار مواقعنا في الملعب كنا قريبين من بعضنا، ورغم التوتر الذي يعتري بقية اللاعبين والتراشق بالهتافات في المدرجات (حين يكون المكان ملعب درنة البلدي) كنا نتحاور ونلقي النكات حين تكون الكرة بعيدة عنا، أو نتحدث عن شاعر أو قصيدة، ومهما كانت النتيجة كنا نتعانق في آخر المباراة.

بعد قفل القسم الداخلي في مدرسة القبة الثانوية مع نهاية السنة الأولى انتقل فوزي، وداومت أنا على المدرسة نفسها التي تبعد عن قريتي 25 كيلومترا، كنت أقطعها ذهابًا وإيابًا كل يوم، راكبًا مع أحد الأصدقاء أو واقفًا على الطريق في انتظار فاعل خير يقلني إلى المدرسة أو يعيدني إلى البيت. ولم ألتق فوزي إلا في القسم الداخلي في جامعة قاريونس فرع البيضاء العام 1979، وكنت أدرس في كلية الزراعة وهو في كلية التربية، وبدأنا نستأنف الحوارات نفسها وتبادل الخواطر الشعرية وبعض الكتب. في أحد بيوت القسم الداخلي في البيضاء (عمارة فندق القاهرة سابقًا) كان يوجد نادٍ في الطابق الأخير به طاولة تنس تظل شاغرة ليلًا، فكنا نذهب إليه ونلعب حتى ساعة متأخرة، وكان في اللعب يمارس هوايته المفضلة أن يرفع لي تلك الكرة الصغيرة وأنا أضربها بقوة وهو يرجعها بإتقان، ورغم كل حرصي على مراوغته إلا أني كل مرة أجد الكرة قد رجعت إلى ملعبي على الطاولة حتى أتعب وأخطئ، فأراه مبتسمًا ابتسامته تلك التي لا تفارق محياه في أي ظرف، وكل آخر ليل نعود منهكين إلى غرفنا، وعادة ما يسرقنا النوم ونُفوّت محاضراتنا الأولى. بعد عودته من رحلة العلاج إلى مصر، أثناء أولمبياد باريس، كنت أتابع مباراة نهائي فردي الرجال في تنس الطاولة بين البطل الصيني فان تشيندونغ والسويدي ترولس موريغارد، وكانت بدايتها مثيرة جدًّا، فاتصلت بفوزي لكي يتابعها، وسألته: ماذا تفعل؟ فقال: أتابع نهائي تنس الطاولة، فضحكت وأخبرته: أني اتصلت لأخبرك بالمباراة. وطمأنني عن وضعه الصحي وأنه يتحسن، واستبشرت خيرًا ما دام شغفه باللعبة ما زال مستمرًا هو الذي كان يتابع كل بطولاتها وأبطالها وبطلاتها.

من الذكريات التي تداعت بقوة، كانت فترة امتحانات نهائية في كلية الزراعة، وكان امتحاني في اليوم التالي في مادة الكيمياء العامة، وقبل الامتحان بيوم أصبت بإنفلونزا حادة فقررت النوم والنهوض يوم الامتحان مبكرًا لمراجعة المنهج، صحوت فجرًا وفي طريقي إلى الحمام ألقيت تحية الصباح على طلاب يذاكرون في الغرفة المجاورة، وآخر ما أذكره أني فتحت باب الحمام، ثم لم أعِ أو أعلم شيئًا إلا عند الظهيرة مستلقيًا على سريري في الغرفة وبجانبي فوزي، وعرفت أنه أغمي عليَّ لحظة دخولي الحمام، واستُدعِيتْ سيارة إسعاف الجامعة ونقلتني إلى المستشفى، وطيلة هذا الوقت الذي كنت لا أعي فيه شيئًا كان فوزي معي بعد أن ترك يومه الدراسي. وظل معي سؤال لسنوات لم أطرحه على صديقي وقتها، ماذا حصل؟ وكيف وصلت إلى المستشفى؟ وكيف عدت إلى غرفتي؟ إلى أن خطر ببالي في إحدى زياراتنا للصديق أحمد يوسف عقيلة أن أساله عما حدث، وأخبرني أني ذهبت إلى المستشفى ماشيًا وهو يسندني، وعولجت بحقنة بنسلين وحقن وريدي بمحلول الملح، ولأني في فترة امتحانات تمت إعادتي إلى القسم الداخلي وطوال الوقت كان فوزي معي، وهذه أول ذكرى تداعت لي فور قراءة الخبر الصعب المرفق بصورة يبتسم فيها، وهي نفسها تلك الابتسامة التي رأيتها بجانبي على السرير حين فتحت عينيَّ لأول مرة منذ انهياري على باب الحمام.

بعد أحداث الحادي عشر من أبريل الدموية، العام 1982، في فرع الجامعة بالبيضاء، نُقِلتْ كلية التربية إلى معسكر ثم إلى بنغازي، واختفى من جديد صديقي المقرب واختفى معه مرح كثير، وصرنا لا نلتقي إلا في بعض مباريات كرة القدم، وظلت مراكزنا في اللعب تجعلنا قريبين من بعضنا نتبادل النكات أو بعض المقاطع الشعرية التي نحفظها، وفي إحدى المباريات الحاسمة التي ستنقل الفريق الفائز إلى مباراة أخيرة سينتقل الفائز فيها إلى الدرجة الأولى من الدوري الليبي، سجل فريق فوزي هدفًا في شباكنا في الشوط الأول (وأقول فريق فوزي لأنه كان بذكائه ومهاراته قائده وعقله المدبر ومدربه داخل الملعب)، وفي الشوط الثاني تحصلتُ على ركلتَي جزاء متتابعتبن خلال خمس دقائق، سجلت هدف التعادل من الأولى، وحين وقفت لتسديد الثانية كان صوت فوزي المشاكس يصلني من الخلف وهو يحكي عن بعض الذكريات، ويحاول أن يربكني بكثير من الإطراء والحديث عن مهارتي في تسديد ركلات الجزاء، وفعلًا نجحتْ خطتُه وضيعت الركلة الثانية، وحين التفتُّ غاضبًا رأيت الابتسامة نفسها على محياه، وعانقني مواسيًا، ليسجل فريقه الهدف الثاني ويفوز في المباراة في ملعب درنة البلدي، وكان يحضر تلك المباراة الحاسمة جمهور غفير يملأ المدرجات صخبًا عبر رقصات (الكشك) والشتاوي التي تمجد كل فريق وتسخر من الآخر.

ومع السنين، وبعد انتقالي للإقامة في درنة، قلّتْ لقاءاتنا، وصار فوزي يتابع ما أنشره من شعر، وأنا أتابع ما ينشره على صفحته في «الفيس بوك» إلى أن صدر ديوانه الأول «تليقين بفوضى محرابي»، وفي لقاءاتنا المحدودة كنا نتناقش، وكنت أشجعه على التخلص من معطف نزار قباني لأنه يملك موهبة نادرة تجعله يكتب قصيدته الخاصة ببراعة، وكنت أخبره أن الشعر لعبة وعليه أن يلعبه كما كان يلعب كرة التنس ببراعة، وفي تجربته الأخيرة بدأت تتبلور نكهته الخاصة في قصائده التي تشبه نقاءه في الحياة وبراعته ورشاقته في كل الألعاب الرياضية التي شغف بها.

قبل عام، وأنا أفتش دفاتري القديمة عثرت على كراسة كتبتُ فيها خواطري الأولى في نهاية المرحلة الإعدادية وبداية المرحلة الثانوية، ولأن مدرسة القبة كانت مختلطة، فقد كتب أصدقائي وصديقاتي في الفصل وفي القسم الداخلي بعض الملاحظات بعد أن أطلعوا على هذه الكراسة الزرقاء التي تتخللها خيوط ذهبية، ومن ضمنها عثرت على أسطر كتبها الصديق فوزي، منذ 46 سنة، بخطه الجميل في آخر الكراسة التي عنونتها باسم (مشاعر) لأنها في الواقع لم ترْقَ إلى مستوى الشعر وكانت فقط مشاعر مراهق مكتوبة، وبعثت له صورةً من ملاحظته على الماسنجر، أعادتنا إلى الحديث عن ذاك الزمن وذكرياته، أو ما نسميه عادة الزمن الجميل، ولأن الزمن يركض بنا صوب النهاية فمن الطبيعي أن تكون العودة بعكس تقدم الزمن جميلة مهما كانت ظروف ذاك الزمن صعبة. يقول في ملاحظته العتيقة في آخر تلك الكراسة التي نجت بأعجوبة بعد أن غمرت مياه فيضان درنة مقر تاسيلي للفنون البصرية حيث كانت، لتبدو وكأنها مخطوطة من زمن عتيق: يكتب فوزي: «أخي.. قد تنخرس ألسنتنا.. وتعجز عن الحديث.. تعجز عن التعبير بمدى الإعجاب.. والحقيقة أني وقفت وقد تسمرت عيناي على كتابتك.. على خواطرك.. أو مشاعرك كما سميتها بذلك.. وحقًا هي مشاعر رقيقة.. تستحق أن ننظر إليها في زمن نحن في أشد ما نكون في حاجة إليها.

أخي... سِر كفراشة جميلة أسكرتها نسائم الورد فأخذت تترنح هنا وهناك تنهل من رحيقها.. تقطف الجميل منها وتهديها سهلة إلى تلك الفراشات التي تقف دون أجنحة في سراديب الجهل المظلم... سر كشمعة تضيء لشبابنا الطريق القويم نحو زهرة المستقبل الذي يرنون إليه بعيون متلهفة..
نصيحتي لك.. هي المثابرة على القراءة فهي غذاء العقل.. فاقرأ كل ما تقع عليه يدك واستفد من كل ما تقرأ...

مع تمنياتي لك بمستقل زاهر براق.. أخوك فوزي علي الشلوي الأبرق، الإثنين، 1/1/1979».

مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»