شددت الرحال إلى «طرابلس الغرب» للمرة الثانية لأكون الصحفي، وفيها بدأت الشغل كغريب يقيم في فندق بغرفة كالزنزانة الانفرادية بمبلغ 66 دينارا شهريا من راتب 117 دينارا شهريا طبعا ما يتبقى منه جعلني أقتات السندوتشات، لكن وقدة النفس التواقة وشعلة الزملاء الشباب جعلت من «آفاق ثقافية-كتابات شابة» الصفحة الثقافية الأبرز، حينها نشرت مرة إعلانا يتكون من نصف الصفحة عن مواد لكتاب جلهم جدد ستنشر في الأعداد المقبلة، بهذا كنت أعتذر للزملاء الشباب الحداثيين عن مواد كثيرة بعثوها ولم تنشر بعد، وأبز خصومهم من تقليديين وسلطويين وما خفي كان أعظم.
وفي بيوت الزملاء الكتاب: «عمر الككلي» و«محمد الفقيه صالح» رفقة «على الرحيبي» و«على الجواشي» و«محمد الهادي الزنتاني» و«عبدالرزاق الماعزي» وغيرهم في حوار ونقاش حامٍ نعد الصفحة ونجمع الكتابات التي غدت ترد من مدن البلاد ومن غيرها، أما مقهى «زرياب» وصاحبه «محسن كحيل» فإنه الملتقي بالكتاب المعروفين كأمين مازن ويوسف القويري ومحمد أحمد الزوي والجيلاني طريبشان وفي مكتبة «دار الكتاب العربي» لصاحبها مصطفى المجعوك لقاء آخر بكتاب آخرين كعبد الله القويري ومحمد علي الشويهدي وفي الجريدة كفاطمة محمود وأحمد الحريري ومن فلسطين وليد رباح وعلى الخليلي ومن مصر محسن الخياط ووليد سيف النصر وغيرهم.
وجمعهم من الداعمين لما بدا أنهم كتاب جدد ينبثقون لحظة قيظ صحراوي قاس، عندئذ الأخ العقيد ينشئ كتابه الأخضر على صرح نظريته العالمية الثالثة التي لا يأتيها الباطل من قدامها ولا من خلفها، أصدر الفصل الأول من «الكتاب الأخضر» تحت عنوان الديمقراطية وقبلها مهد في أبريل 1973م بإعلان ثورته الثقافية وزج في السجن بأعداد من المثقفين منهم الكتاب والأدباء، في هذا الفصل يفصل ثوبا للصحافة التي يملكها المجتمع والمهنية التي تملكها النقابات وما في حكمها، هذا التنظير مجرد لوك ماء فالحاصل حصيلة مزاج القائد المفكر والمعلم الثائر ليس إلا.
«آفاق ثقافية – كتابات شابة» حين أكملت عامها الأول جرى خسفها فجريدة «الفجر الجديد» اليومية التي تحتوي الصفحة حولت إلى مجرد أوراق تنشر أخبار «وكالة الأنباء الليبية»، وجزء من طاقم تحريرها -كنت أحدهم- مع رئيس التحرير نقلوا لجريدة «الأسبوع الثقافي» وهي العدد الأسبوعي من «الفجر الجديد» ما أمسى جريدة رأي بحسب مخرجات الأخ القائد، تلقيت الخبر حيث كنت أقضي إجازة رأس سنة 1977م بمدينة الأنس فيينا.
«الأسبوع الثقافي» صار لي مكتب سكرتير تحرير فيها، دون قرار رسمي مارست هذه الوظيفة، وجماعة السبعينيات الأدبية الشباب زادوا عدة وعددا في «الأسبوع الثقافي» التي كانت توزع تقريبا 20 ألف نسخة في 24 صفحة، لم يعد غيرها من جرائد في البلاد التي كانت تزخر بصحف عدة في المدن، اليتيمة الوحيدة «الأسبوع الثقافي» سينشئ رئيس التحرير لها أختا تدعى «الأسبوع السياسي» التي أصبح سكرتير تحريرها الزميل «خليفة خبوش»، وقد غدا «عبد الرحمن شلقم» يطمح إلى أن يجعل من هذا لبنة لمؤسسة جريدة قوية وفاعلة تصدر صحف رأي وثقافية بالأساس، لهذا أضحت الجريدتان عنده منبرا لجيل جديد وشاب، وذا بمثابة استجابة لما عمل من أجله الثلة التي أسهمت في إنشاء صفحة «آفاق ثقافية – كتابات شابة» اليسارية في توجهها العام.
انطلقت في عمل لا يكلَ من أجل جذب الشباب وذلك بإثارة قضايا ثقافية ساخنة حول مفهوم الحداثة والسردية والشعرية وحول علاقة الثقافة بالجماهير، وكانت تعقد ندوة أسبوعية تقريبا لنشرها بالجريدة يشارك فيها الكتاب الشباب من تنشر نصوصهم وكتاباتهم بها، بدا وكأنه بالإمكان أبدع مما كان رغم التوجس والريبة التي تحيط بنا من قبل رجال النظام من سياسيين وأمنيين وخاصة من الشباب، مقال بعنوان: دع مئة زهرة تتفتح شعار ماو الشهير يثير زوبعة من ردود الأفعال، قصة قصيرة حول اغتصاب فتاة من قبل شخص نافذ تؤول بأنها ليبيا اغتصبها الأخ العقيد، اهتمام نبديه بالكتاب من الأجيال السابقة بمحاورتهم ونشر مقابلات معهم ومنهم من خرج من السجن يثير السخط.
أما الكتابة عن أسماء من العالم معروفة بماركسيتها فتجلب الويل وهلم جرا، عند تلك اللحظة كان الأخ العقيد يعمل لأجل تكوين التنظيم السياسي - لحماية الثورة وتطبيق النظرية الثورية- ما أطلق عليه «اللجان الثورية» هذه اللجان التي تملك ولا تحكم حيث الشعب الحاكم من خلال المؤتمرات الشعبية، كم هائل من تخرصات الأخ العقيد التنظيرية والإجرائية غدا يزداد وينمو فيضطرد العسف والعنف والقمع، ثم التنكيل والسجن فالإعدامات المذاعة عبر التلفزيون في بث مباشر، وفي وضح النهار في الشوارع في الدول الديمقراطية يجرى مطاردة واغتيال المعارضة الليبية من اللاجئين والمقيمين في تلك البلاد، لقد صدر الفصل الثاني من الكتاب الأخضر/ الاقتصادي
في جريدة «الأسبوع السياسي» شقيقة «الأسبوع الثقافي» ظهر «بوزيد دوردة»، رجل القذافي في كل وقت من تبوأ مناصب رئيس وزراء وعدة وزارات ومندوب ليبيا في الأمم المتحدة حتى الأيام الأخيرة للقذافي حين كان رئيس المخابرات، ظهر بمقال بيان منددا فيه بجماعة تعمل ضد الثورة ويدعون أنهم ثوريون وهم قد استولوا على منابر الثورة، بعد نشر المقال البيان بفترة وجيزة أوقف «عبد الرحمن شلقم» عن العمل وعين «سعد مجبر» رئيسا للتحرير، وزج بثمانية عشر شابا –كنت من بينهم- من كتاب وصحفيين بالسجن بتهمة الانتماء لـ«حزب ماركسي لينيني» يستهدف إسقاط الثورة والاستيلاء على نظام الحكم التهمة الرائجة حينها، جرى توقيفنا لمدة عام ونصف ثم حكم قاض بمحكمة جنايات طرابلس علي ستة منا بالبراءة واثني عشر بالإعدام المخفف ورأفة من الأخ العقيد إلى المؤبد...
مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»
تعليقات