يتزامن وفائي بهذا الالتزام الأسبوعي الذي وقّتُّه البوابة بيوم الأحد مع تاريخ الأول من سبتمبر، اليوم الذي دخل تاريخنا الوطني منذ نصف قرن وسنوات أربع ليصبح يومًا وطنيًا لم يُزحه سوى السابع عشر من فبراير 2011 وهي على كل حال سُنّة الحياة مُذ قال ذلك الحكيم إذا أقبلت أقبلوا وإن أدبرت أدبروا، وما دمنا قد ربطنا الوفاء بالالتزام المُشار إليه في أغلب الأحيان إن لم نقل كلها بالأحداث فلا حرج من الخوض في الذكريات المتوفرة عن اليوم المذكور عندما استيقظنا في ذلك الصباح، وكما وثّقتُ في الجزء الثالث من مساربي، لِنجد الإذاعة مكتظة بالمارشات العسكرية داعيةً إلى انتظار بيان مهم ما لبث أن جاء وأطلق عليه البيان الأول معلنًا إسقاط النظام الملكي وتسمية ليبيا الجمهورية العربية الليبية.
وفي وقت لاحق أذاعت صوت الحسن الرضا بصفته نائب الملك وتنازله عن العرش إلى آخر ما تلا ذلك من الاعترافات وقبلها التأييدات التي بدأت بسوق الجمعة، وكانت أزمة النظام قد بلغت ذروتها منذ أوائل ذلك الشهر «أغسطس» عندما امتلأت شوارع المدينة بالمناشير المعادية للملك المقيم يومئذ بين اليونان وتركيا وشائعات تفوق الهمس عن انقلاب وشيك الوقوع بقيادة العقيد عبد العزيز الشلحي وأعداد غير قليلة من سيارات الڤولكس حاملة لوحات متقاربة الأرقام يُدرك كل ذي وعي ولو متوسط أنها تقوم بمَهمّة رقابية، خاصة أن الكثير منها كانت دائبة التردد على أجهزة الإعلام ولا سيما وكالة الأنباء التي قيل منذ حرب يونيو إن معظم العاملين الجدد فيها قد جيء بهم من أمن الدولة لمراقبة من يزعم أنهم ضد العهد.
مع أن الكثير منهم كان له من انشغالاته الشخصية وعدم الاطمئنان لأي بديل عسكري ما يحول بينهم وبين أي تحرّك، إلا أن الجو العام كان معبأ بوجود نشاط هدّام يقوم به أولئك الذين دُفِعَ بهم ظلمًا وعدوانًا. وقد زاد من قلقي شخصيًا يومئذ فشلي في الاتصال بأكثر المهتمين قربًا مني وهو الأستاذ عبد الحميد البكوش، فقد كان بما توفر له عن حجم التسيُّبِ وتآكل الكيان لا يستبعد إقدام أي مغامر على الإطاحة بالنظام في ضربة واحدة كما عبّرَ لي شخصيًا في الصائفة التي سبقت ذلك الخريف، وأعَدْتُها في حينها وكنت أرى فيها المعلومة إلى جانب الرأي، غير أنه للأسف لم يرد على هاتف منزله، فبدا وكأن هناك من يسعى إلى التأزيم.
فلم يأت الأول من سبتمبر إلا والجديد سيد الموقف، كما أن عدم وجود أي مقاومة وما اتسم به البيان المذكور من الارتباك لفت نظر كل من يتوفر على الحد الأدنى من المراقبة، وعندما يحلُّ اليوم بعد هذه الحقب الخمس من التاريخ ليس لنا معشر شهود المرحلة إلا أن نرفع الصوت عاليًا أن هذا اليوم قد صار جزءًا من التاريخ، وامتلأ سجله بأحداثٍ لا مجال لإنكارها، لا فرق أن تكون جاهزة فقَطفَ ثمارها أو تسبب فيها ولو دون القدر المطلوب فقد وُجِدَت على كل حال وقيل حولها ما قيل من المؤرخين.
وخيرٌ لنا أن نُقلل من الغلو تجاه السلبي والإيجابي على السواء. ناهيك عن أن أبواب المقارنة قد فُتِحَت، والأفضل والحالة هذه أن ننصرف إلى المستقبل حذرين من تضخيم الصورة مؤمنين أن الوطن للجميع، وأن التاريخ يفتح دائمًا الصفحات تلو الصفحات، ولن يستطيع لاحق إقصاء سابق، والكمال دائمًا لله وحده، والتاريخ أكبر من الرغبات.
مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»
تعليقات