Atwasat

الألبانية (ليا يبي) في دار الفرجاني

سالم العوكلي الثلاثاء 13 أغسطس 2024, 03:22 مساء
سالم العوكلي

يحدث في هذه المرحلة من العمر أن تقل مساحة الاطلاع لأنه، من جانب، يضمحل ما يثير الدهشة أو يستحث متعة القراءة، ومن جانب آخر تقل مساحة الاطلاع الزمنية لأسباب تتعلق بِعُدة هذا الشغف من نظرٍ وتركيزٍ وذاكرةٍ وسعةِ صدر، ورغم كل ذلك يحدث أن تقرأ كتاباً استثنائياً يُسلّمك لغبطة لا متناهية تجعلك تهمس لنفسك: كان يمكن أن أموت قبل أن اقرأ هذا الكتاب، ويا لها من خسارة!، وتحمد ما تبقى من العمر وما تبقى في جسدك من عُدّة القراءة على هذه الحظوة، وفيما يخصني غالباً ما كان الفضل يرجع إلى الترجمة، ومن حسن الحظ أن يكون من قرأت ترجماتهم أصدقاءً أعرفهم جيداً وأعرف مدى حرصهم على توصيل أكبر قدر من جمال النص الأصلي في الكتب المنتقاة بعناية.

وأخص ترجمات صديقيّ: نجيب الحصادي، وفرج الترهوني الذي فرغت توا من قراءة ترجمته للكتاب المذهل (حرة: بلوغ الرشد عند نهاية التاريخ) للألبانية، ليا يبي، (Lea YPI)، الصادر العام 2022 عن دار نشر بينغوين، والفائز بجوائز أدبية عدة، وتُرجم إلى ثلاثين لغة، والذي ستصدر قريبا ترجمة المبدع فرج الترهوني الأولى له إلى العربية عن دار الفرجاني للطباعة والنشر والتوزيع.

تهدي (ليا) كتاب سيرتها إلى ذكرى جدتها ليمان يبي (نيني) 1918 ــ 2000، وتمهره باقتباس لروزا لوكسمبورغ نصه «الناس لا يصنعون التاريخ بإرادتهم الحرة، لكنهم مع ذلك يصنعون التاريخ»، وستكون مفردة «حرة» المشتقة من الحرية، والتي تشكل عنوان الكتاب الرئيسي، هي مبحث هذه السيرة الشائقة وورشة أسئلتها، «لم أسأل نفسي أبدًا عن معنى الحرية حتى ذلك اليوم الذي عانقتُ فيه ستالين. فمِن قرب، كان أطول كثيراً مما توقعتُ.

لقد أخبرتنا معلمتنا نورا، أن الإمبرياليين والرجعيِّين أحبوا التأكيد على أن ستالين كان قصير القامة. في الواقع، لم يكن قصيرًا مثل لويس الرابع عشر، الذي قالت إنهم، وعلى نحوٍ غريب، لم يتطرَّقوا إلى طوله أبدًا. وأضافت بجدية، على أي حال، فالتركيزُ على المظاهر بدلًا ممَّا هو مهمٌّ حقًّا كان خطاً إمبرياليًّا تقليديًّا. لقد كان ستالين عملاقًا، وكانت أفعاله أكثر أهمية مما له صِلة بجسمه». وهي إذا تبدأ سيرتها بفصل عنوانه «ستالين» فإن ما تقصده بعناق ستالين هو تمثاله المنصوب في قلب تيرانا عاصمة ألبانيا، وكل معلوماتها عنه من معلمتها في الفصل "مضت نورا لتوِضِّح أن الشيء الذي جعل ستالين مميزاً هو أنه يبتسم بعينيه. هل يمكنكم تصديق ذلك؟ أن تبتسم بعينيك؟! هذا لأن الشارب الودود الذي يزيِّن وجهه كان يغطي شفتيه؛ لذلك إن ركَّزتَ فقط على الشفاه، فلن تعرف أبدًا ما إذا كان ستالين يبتسم حقًّا أم يفعل شيئًا آخر. لكن عليك فقط إلقاء نظرة واحدة على عينيه البُنيتين الثاقبتين والمشِّعتين ذكاءً، لتعرف أنَّ ستالين يبتسم».

بهذه السطور تفتح الألبانية ليا يبي كتاب سيرتها التي ترصد تحولات كبرى في ألبانيا والعالم المحيط بها كما وقعت في سني طفولتها ومراهقتها، وهي تسترق السمع للراشدين وهم يتحدثون عن أمور شتى، وكل مرة تتوقف وتستنشق كل حديث قد يجيب عن سؤالها، وفي خضم هذا البحث كانت تحاول ممارسة حرياتها الصغيرة، كأن تختار «بحرية» كل مرة طريقاً مختلفاً إلى بيتها، «فلا أحد كان يبحث عن الحرية، لأن الجميع كانوا أحرارًا بالفعل، مثلي تمامًا، يمارسون تلك الحرية ببساطة، أو يدافعون عنها، أو يتخذون قرارات يجب أن يمتلكوها حول اختيار طريق العودة إلى البيت، سواء الانعطاف يميناً أو يساراً أو المشي بشكل مستقيم».

وفي الوقت نفسه كانت بحسها الطفولي تحاول أن تتمثل الحرية في أشخاص يقدسهم المحيط ويتحولون في ذهنها إلى آلهة، ستالين أو أنور خوجة، وحاولت أن تلمس هذا الغموض في تمثال ستالين المنتصب في تيرانا فتشبثت بساقيه الحجريتين، ثم تصعد بعينيها كي ترى ابتسامته وشاربه الذي يكتمها، ولكنها فوجئت بما رأت «قمت بإمالة رقبتي للخلف، ورفعتُ رأسي لأؤكد أن شاربه كان يغطي الشفة العليا بالفعل وأنه يبتسم بعينيه. لكن لم تكن هناك ابتسامة. لم تكن هناك عيونٌ ولا شفاه ولا حتى شارب. (كان الهوليغان المشاغبون قد سرقوا رأس ستالين)».

تعيش (يبي) أحداث الثمانينيات كطفلة، والتسعينيات كمراهقة، حتى بلغت سن الرشد مع انهيار جدار برلين، حقبة ما سمي (نهاية التاريخ)، بينما لا يكف والدها وجدتها عن الحديث عن أحداث القرن، وهي لا تكف عن طرح الأسئلة لأنها تريد كل شيء أن يفضي إلى مديح معبودها خوجة الذي يبدو كظل ساطع لبطلها ستالين كما ألهمتها المدرسة ومناهجها ومعلموها. الحرب الباردة، والتحالفات الكبرى، ودفاع خوجة المتطرف عن جوهر الاشتراكية الذي جعله يعادي المعسكرَين، كانت كلها تنعكس على تفاصيل حياة هذه الأسرة الصغيرة، والطفلة تنصت لأحاديث الكبار، وبين ما تسمعه من معلميها في المدرسة وما تسمعه في البيت كانت تتصارع كل التضادات في حياتها، وكانت أسئلتها المحرجة التي توجهها إلى عائلتها تجربةَ صدامها الأول مع الريبة والشك في كل شيء، بينما كان كذب العائلة وتزييف الأجوبة تَقِيَّتهم في مكان كل شخص فيه يشك في من بجانبه، ليصبح تشفير الكلام ملعباً آخر لحيرة الطفلة. «لم أفكر مطلقًا في أن أسأل عائلتي، ليس بالضبط أين تقع جامعات ب، أو إس، أو إم، ولكن ما تمثِّله تلك الجامعات. وتعذَّر الوصول إلى الإجابات الصحيحة لأنني لم أكن أعرف كيفية طرح الأسئلة الصحيحة.

لقد أحببت عائلتي، ووثقت بهم. وبالطبع قبِلتُ كل ما قدَّموه لإرضاء فضولي. في بحثي عن اليقين، اعتمدت عليهم لمساعدتي في فهم العالم. ولم يخطر ببالي مطلقًا قبل ذلك اليوم في ديسمبر 1990، بعد مواجهة ستالين تحت المطر، أن عائلتي لم تكن مصدر كل اليقين فحسب، بل كانت أيضاً مصدر كل الشكوك».
العام 1990 وبعد سقوط جدار برلين تكتشف أن ما سمعته قبل سن الرشد كان كله زيفاً، لتبدأ الحقائق تتكشف لها تباعاً، وتبدأ في فهم الرموز التي كانوا يتحدثون بها خوفاً من أن يجهروا بآرائهم . فالحديث المرمز عن الجامعات كان يشير إلى السجون، والحديث عن التخصصات كان يشير إلى التهم. «لقد علمتُ الحقيقة عندما لم يَعُد الأمر يمثِّل خطورة علينا، ولكن أيضًا في الوقت الذي كنت فيه كبيرة بما يكفي لأتساءل لماذا كَذَبتْ عائلتي عليَّ لفترة طويلة. ربما لم يثقوا بي. لكن إذا لم يفعلوا، فلماذا أثق بهم؟».

في فترة ما كنا نتوقف عند كتب ما ، نتبادلها بحماس كأصدقاء، ونُعبِّر عن إعجابنا بها ونتناقش في السهرات حولها. مثل رواية البجعات الثلاث، أو حفلة التيس، وما يشد فيها أن هذه الكتب كانت تصف أوضاعاً سياسية واجتماعية وحالاتٍ متطرفة من القمع تشبه ليبيا تماماً، بل نعتقد أن رأس النظام هنا يحاول تقليد أولئك الطغاة في كل التفاصيل، ما يجعله كشكولاً من طغاة التاريخ يُغيّر أفكاره المتقلبة مثلما يغير ملابسه الغريبة، ويستمر التشابه حتى بعد نهاية النظام وتداعيات ميراثه القاسي على الناس، ففي ألبانيا نظام شمولي يستمر لأربعة عقود، تتحدث وسائل إعلامه الموجهة عن الفردوس الذي يعيش فيه هذا الشعب الصامت والمعزول عن العالم تماماً، ثم يسقط النظام فجأة مع تفكك الاتحاد السوفياتي ومعسكره الشرقي، تبدأ مرحلة ما يسمى «العلاج بالصدمة»، ويتحول ما يسمى الإصلاح إلى ثورة: «ستستمرُّ الاحتجاجات المضادة لبضعة أشهر فقط.

وما بدأ كسلسلة من الإصلاحات أصبح يسمَّى على نحوٍ متزايِدٍ بالثورة. في أي ثورة أخرى، سيكون هناك مظلومون ومضطهدون، ورابحون وخاسرون، وضحايا ومرتكبون للعنف»، لكن ما حدث في ما تسميه الثورة المخملية في ألبانيا كان «ثورة الناس على المفاهيم». ومع الثورة ونهاية النظام يظل سؤال الحرية المنكد يلاحقها، ويظل مفهومها للحرية حين تنساب في تفاصيل الحياة اليومية، وبين مفهومها المطلق كشعار سياسي ونعمة تستحق الامتنان، كما يراها أبواها: «تمَّ حثّي على الشعور دائما بالامتنان، لإظهار تقديري لنعمة الحرية، التي جاءت متأخِّرةً جداً ليستمتع بها أبواي، وبالتالي تطلَّبَت مني أن أمارسها بمسؤولية أكبر. عندما فشلتُ في التعاطف مع محنتهم، تعرَّضتُ للتوبيخ لأنانيتي، لكوني غير حساسة لمعاناة أجدادي، ولمحو ذاكرة محنتهم بخفَّةٍ سلوكي. لم أشعر بالحرية على الإطلاق، بل شعرت بضيق شديد في الشتاء، حيث يحِلُّ الظلام مبكِّرًا، ولم يُسمح لي بالخروج بعد غروب الشمس».

بعد أن تحصلت ليا يبي على درجات في الفلسفة والأدب من جامعة روما، ستصبح أستاذة للنظرية السياسية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، ويظل كل الشواش الذي يحيط بمفهوم الحرية يتبعها، فتذكر في خاتمة الكتاب أنها كانت تخبر طلابها بأنه «لا يتم التضحية بالحرية فحسب عندما يخبرنا الآخرون ماذا نقول، وأين نذهب، وكيف نتصرف. وأن المجتمع الذي يدَّعي تمكين الناس من تحقيق إمكاناتهم، لكنه يفشل في تغيير الهياكل التي تمنع الجميع من الازدهار؛ هو أيضًاً مجتمع قمعي. مع ذلك، وعلى الرغم من كل القيود، فإننا لا يجب أن نفقد أبدًاً حريتنا الداخلية، حرية فِعل الصواب».

هذا كتاب تشكل المعرفة وحدها أخلاقيته، يحاول أن يفهم، لا يحاكم ولا يلقي الأحكام، وهو نوع من الكتب الذي إذا رغبتَ في أن تضع خطاً تحت كل جملة أو سياق يعجبك فسيمتد الخط من أول كلمة إلى آخر كلمة.

مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»