.. والذي يذكر هنا عبر حرارة الصيف القديم والجديد أنه من التاريخ وقد أضحى الآن في أغلبه في ذمة التاريخ. والتفاصيل عديدة وهي تشير إلى أن شباب بنغازي الذي أقبل والتقى واتفق مع الثلاثة القادمين من مصر وجدوا في وجودهم وحضورهم مفهوما جديدا يغمر عقولهم عن الإسلام وتصورات حوله لم يألفوها من قبل في الحياة اليومية.
في البيت. في الشارع. في المدرسة وفي كل مكان. كان السائد هو التصور الفطري المعهود عن الدين ومنهجه في حدود لم تكن واسعة أو ثرية بالمعنى الذي قدمه الثلاثة على الدوام. كان هناك استعداد عند شباب بنغازي المتعطش للمعرفة والاستكشاف والاقتراب من مناطق ودوائر لم يلامسها سابقا. وجد في الثلاثة موهبة في الوجود والتأثير وإلقاء خطبة الجمعة في جامع الدراوي والدروس اليومية والعلاقة المتجددة والطرق والوسائل المختلفة تماما حتى في برامج جمعية عمر المختار وغيرها من منظمات أو تجمعات.
كان جوا جديدا ومبهرا بالنسبة لهؤلاء الشباب بدأ يطرق الأسماع ويدق الأبواب والجدران ويتحلق حوله الجميع يوما بعد يوم بالإقناع والسلوك العملي. لقد فتح الثلاثة القادمون من مصر فرارا بفكرتهم أفاقا كبيرة أمام الشباب في المدينة بلا انقطاع. وأدركوا بطريقة أو أخرى أن حضورهم في أنشطة سابقة يعد تخلفا أو تأخرا إزاء التقدم الذي لاحظوه يسري في نفوسهم عبر الثلاثة الذين أصبحوا جزءا من المدينة وشبابها بسرعة مذهلة. كانت السلطات وفي مقدمتها الجهات الأمنية تراقب وبدأت تنصح الكثير من الشباب بأخذ الحذر وعدم الانزلاق نحو أفكار الإخوان المسلمين الذين أضروا بمصر الجارة القريبة منا وبسياستها.
هكذا كان الخطاب يوجه للشباب دون ضغوط أو تحقيق. النصح كان يأتي بطريقة ودية في الغالب وقد نجح مع العديد الذين ابتعدوا عن النشاط الجديد الذي يسري في أركان المدينة. كان للسلطة وجهات أمنها تحسباتها وتوقعاتها ونظرتها للمستقبل رغم وجود الثلاثة باعتبارهم ضيوفا لدى الأمير!
وفي الواقع كان أغلب شباب المدينة الذين تجمعهم مدارسها وأنديتها والجوار في الشوارع والأزقة مستعدا للانضواء والعمل تحت عباءة الفكرة الجديدة المقبلة. والبعض من جهة موازية لم يعرف معنى الفكرة في الأساس وخلفياتها وأبعادها وما هو التنظيم الذي يعد ومعناه. وبعض آخر وهو قليل استهوته المبادئ والأهداف والدروس والمثل لكن لم يشأ أن يكون عضوا أو فاعلا في أي حراك أو نشاط للمجموعة وفي كل الأحوال غدا الفكر الجديد الذي يلامس العقيدة ينتشر ويعم العديدين على اختلاف المستويات.
كان الجو الفكري والسياسي عبر قنوات جمعية عمر المختار أسَّسَ في الأصل كما هائلا من الوعي والفهم لدى سكان المدينة وخاصة فئة الشباب الناهض بأحلامه وتطلعاته من رماد الحرب العالمية. شاركوا في فعالياتها وفي كشافتها وفي مظاهراتها وفي توزيع جريدتها (الوطن) وفي أنشطتها الرياضية والخيرية وزرع في شخصياتهم روح التطوع والبذل عبر التدريس الليلي لفئات محرومة من التعليم في المدينة إضافة إلى وجود مجموعات منهم في المطبعة ومقر الجمعية وجعلتهم على صلة قريبة وتماس مباشر مع رواد الجمعية الكبار وقياداتها.
هذا الجو تشكل في بنغازي مسبقا قبل حلول فكرة جماعة الإخوان وزاد عقب وصول الثلاثة في ذلك الصيف الذي نشأت عنه حرارة ارتفاع مد النشاط واستقطاب شباب المدينة. كل ذلك حصل وكان لا بد أن يحصل ويقع وتتسع سخونته مع الفراغ الذي يملأ النفوس ويرين عليها بالصدأ.. الفراغ الذي أيضا يتردد ويتمدد كأنه لازمة ضرورية في إيقاع المدينة وأصدائها. فراغ قاحل في السياسة والفكر والتنظيم والإعداد والحماس يميل الشباب بالطبيعة إلى سده وإغلاقه وإرواء غليله من العطش. هذا ما حدث تماما في صيف بنغازي ذلك العام وما سيظل يحدث في أصيافها المقبلة. حرارة وسخونة وتفاعل وكيمياء تنطلق لتحقق المطلوب.
وفي كل ذلك لم ينشأ صراع عنيف أو اختلافات مخلة أو انتقامات مؤسفة. كان ذلك يجرى في وضح النهار في مواجهة السلطة للجمعية.. إدارة عسكرية أو حكومة محلية أو في أواخر الليل أثناء طبع المنشورات وتوزيعها على الدوام. الجمعية بكل تكويناتها تطالب بالوحدة الليبية وبيعة الأمير ملكا على البلاد والبعض الآخر يرى في أن الأمير مطلب أول والفيدرالية.. وهكذا.
وكان للشباب معقد الأمل ورجاء الأمة كما يقال إن يراقب ويتابع ويخوض ويكون رأيا ويلاقي تشجيعا وحدبا ورعاية من الآباء في الجمعية وغيرها من المتعاطفين معها.. أو يجد صدودا وإعاقة من جهات أخرى. تلك طبيعة الصراع في تلك الأعوام التي تدور في ذمة التاريخ وأطيافه البعيدة في الصيف وكل فصول السنة.
ثم إن المعلمين المصريين شكلوا استمرارا لإيقاظ الوعي والتنوير لدى الشباب الذي له الغد ومجده المخلد كما تقول الأناشيد. اكتشفوا بدورهم المواهب والقدرات ولم يقصروا في التشجيع والمساندة وتلازم ذلك مع نشاط الجمعية الفاعل والمؤثر ثم بظهور نشاط جماعة الإخوان. الثلاثة كانوا يشيرون بأن هدفهم ظل في الأساس دعويا وتوعويا بمفاهيم الإسلام في وجه آثار الإيطاليين الباقية من خمور وقمار ورذيلة وابتعاد عن العقيدة وليس تشكيل تنظيم سياسي أو حزبي بمعناه المعروف في مصر وغيرها من الشقيقات.
ليبيا ما زالت تحبو نحو الاستقلال والطريق طويل ومعقد وحساسية المجتمع لا بد من مراعاتها. وفي ذلك كله تبرز السلطة والإدارة بفهم مغاير للصورة الموجودة في المشهد. إن ما يحدث من ضيوف الأمير سياسة وتنظيم وتيار وافد جديد ينبغي أن يراقب ويرصد دون أية صدامات.
الأمر لا يحتاج إلى ذلك لأن الشباب وقادتهم بعيدون عن مشاكسة السلطة واستفزازها وسيظلون كذلك على مدى سنوات تالية إلى منتصف الخمسينيات حين توقف النشاط بالكامل في تلك الفترة. بدأ الإعداد بتشكيل الأسر التي حملت أسماء من الصحابة وقادة معارك الإسلام. في ذلك رمزية وربط للشباب بالتاريخ والماضي ورفع للمعنويات.
ظل الثلاثة يستكشفون ويتابعون الجديرين بالاهتمام والعناية. في العام 1948 شكل إبراهيم حماد وزميليه محمد الغرياني وعبد العزيز زواوة لجنة لمحاربة الخمور وأماكن القمار المنتشرة في المدينة. كان ثمة تجربة لديهم.
وفي المدة التالية سيشكل القادة أول أسرة من محمد الغرياني ومصطفى الجهاني وإبراهيم حماد. تكبر الأسر لاحقا وتتنافس في النشاط بإصدار وإعداد الصحف الحائطية والبرامج الثقافية وأنشطة الرحلات في ضواحي المدينة.
ولم يلاحظ هنا لهم جميعا الدخول في نشاطات سياسية واضحة رغم تعاطفهم مع جمعية عمر المختار التي ابتعد الكثير منهم عن نشاطاتها وبرامجها. وهنا ستنشأ غيرة بين نشاطين مؤثرين في المدينة وما حولها. لم يتحرك التنظيم في أي جهد سياسي برفع شعاراته أو أفكاره وظل يعمل في غطاء قوامه الحرص على الفضيلة وشعائر الدين وإحياء قيمه في مجتمع يعاني من العثرات والأخطاء.
والصيف يتلوه صيف في موسم آخر. تشيع الحرارة في الأفق وفي النفوس وفي الأفكار. الكثير من الحوادث والوقائع يظل تنظيم الشباب بعيدا عنها. ربما ينتظر وقتا آخر أو ظروفا أخرى أو زمنا مقبلا. وتعصف بالمنطقة العديد من التأثيرات. يعلن الأمير إدريس الذي أضحى ملكا استقلال البلاد.
وتمضي الأمور ولكن السياسة بمعناها الواضح بعيدة عن فكر الشباب الذي بدأ أغلبه يوفد للدراسة في الخارج. العديد منهم تغير وتأثر بأفكار جديدة وتيارات جديدة وتلك طبيعة الحياة والأشياء. لا تستقر على ثبات كأن الريح العاصفة تحتها وفوقها وعلى جنباتها. في صيف جديد. يرحل فاروق الذي طارد الثلاثة. نظام آخر يدعو إلى الاتحاد والنظام والعمل ويعيد نشاط الإخوان ويزور قادته ضريح البنا المؤسس. ويصير التقاء وتمازج بين الجدد وأسلافهم من الإخوان.
في ذلك الصيف تتردد الأصداء في الوادي البعيد.. وادي النيل وتردده بنغازي التي تودع الثلاثة في ميدان البلدية وينطلقون إلى مصرهم بعد أن نشروا فكرتهم من الصيف إلى الصيف في بنغازي الساخنة على الدوام.
مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»
تعليقات