تطرقت في ختام مقالتي السابقة، وفي سياق مناقشتي لمقالة الصديق منصور بوشناف «عصبيات» إلى ما يُعرف بالوصمة (Stigma)، ومثلُها الطازج ظهر أمامي على الشاشة في خبر عاجل أثناء كتابتي لهذه المقالة «معلومة مضللة تسببت في أعمال شغب في بريطانيا» والمعلومة الخاطئة التي اكتسبت فعلها من خلفية الوصمة، هي اتهام مسلم مهاجر بقتل ثلاث فتيات.
إضافة إلى ما وصل إليه منصور من وصف للحالة الليبية التي تتنازعها ثلاث عصبيات «قبلية، وأيديولوجية، وسياسية»، أضيف حالة شاملة من الاستقطاب كانت تخترق هذه العصبيات، وهي تقسيم الليبيين إلى حضر وبدو وهو استقطاب مبني على مبدأ (الوصمة) محركه الكراهية والاستخفاف أسهم في عرقلة المسار وفي توفير حاضنات للعصبيات الأخرى، وكما أشرت سابقًا، يبدو من الواضح أن هذه الكتابات منطلقة من ردة فعل عاطفية على حقبة من النظام السابق كال فيها قائده (ذو المنشأ البدوي) الهجاءَ المقذع للمدينة في سياق مديحه للقرية والبداوة، وما يحدث الآن هو العكس تمامًا والخطاب نفسه، وفي الحالتين ثمة تحامل تكتظ به مواقع التواصل بهجاء متبادل بين المدن وأريافها، إضافة إلى عديد الكتابات المستأنسة لوصمة خلدونية (نتجت في الواقع عن سوء قراءة، أو قراءة انتقائية لابن خلدون)، ودون إعادة النظر في هذا التصنيف التعسفي الذي ما عاد يملك ما يشد أزره من مبررات بعد ما شهده العالم من تغيرات جذرية تتعلق بالتعليم وانسياب المعرفة وتقنيات التواصل التي نتجت عنها عصبيات جديدة عابرة للحدود، إضافة إلى ما حققه علم الاجتماع من فتوحات وضعت هذا العلم ضمن بردايم جديد، ليس بعد ابن خلدون فقط، ولكن حتى بعد تقسيمات ماركس التعسفية للقوى المجتمعية بناء على عامل اقتصادي مركزي، وتبدى هذا جليًا في كتابات عالم الاجتماع بيار بورديو خصوصًا؛ حيث أحل مصطلح (المجال الاجتماعي) بدل (الطبقات الاجتماعية) المحكومة بالعامل الاقتصادي الذي يعتبره وهمًا موجودًا في النظرية فقط، أو كما يقول غوتفريد لايبينتس (زعم في الوجود) إن النظرية الماركسية ترتكب خطأ مشابهًا تمامًا للخطأ الذي يدينه كانط في الدليل الأنتولوجي أو للخطأ الذي عابه ماركس نفسه على هيجل: إنها تقوم «بقفزة مميتة» من الوجود في النظرية إلى الوجود في الواقع العملي، أو، حسب تعبير ماركس، «من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء». وما يعنيني في هذا السياق هو القفزة المميتة الناتجة عن الوجود في النظرية بدل الوجود في الواقع العملي، تغليب النظرية على النظر، أو كما سعى بورديو في أن يحل فكرة المجال بدل التصنيف الطبقي أو أي تصنيف آخر لا يرى تلك المجالات المرتبطة بالمصالح والعابرة للحدود بين هذه التصنيفات الاجتماعية الجامدة. يُذكر في تصدير كتاب بورديو ما يلي «إن هذا الكتاب موجه إلى القارئ الجاد الذي يبحث عن معين في فهم الأفكار المتداولة في مجتمعه والأفكار المنقولة والمحمولة إليه، ووظيفة الفاعلين في التداول والنقل»1.
إذا ما اعتبرنا أن العصبية هي نوع من محاولة تحقيق الذات الفردية عبر إدماجها في مجموع أوسع، أو بحث عن الهوية الفردية في سياق الهوية الجمعية، فإنها ستنطبق على كل مجال يراه الفرد ضروريًا ليكون لذاته معنى، سواء أكان عرقيًا تشكل القومية أو القبيلة أو العشيرة إحدى حلقاته، أو مهنيًا (النقابات) أو مذهبيًا، أو ثقافيًا؛ بمعنى حزب أو جماعة ثقافية أو جمعية أهلية.. إلخ، وصولًا إلى عصبيات تتعلق بالصراع الجندري أو كرة القدم أو غيرها من المجالات، وهذا البحث عن الذات في سياق جمعٍ يلبي رغباتها وأهواءها ما سماه بورديو المجال. وربما هو ما يفسر الإرباك الذي تطرق إليه منصور بوشناف في وصفه للعصبيات التي تلتهم بعضها البعض. لكن ما أحاول أن أركز عليه هنا كملمح يمثل كثير من كتابات المثقفين الليبيين عبر اختزالهم العصبية وفق المبدأ الخلدوني في مظهر البداوة عمومًا الذي تشكل القبيلة عماده، والذي تحول إلى وصمة شبيهة بما ذكرته عن وصمة المسلم المهاجر في أوروبا.
في كتابه «غرباء على بابنا» يُعرِّف، زيجمونت باومان، الوصمة مستفيدًا من وصف كتاب إرفينغ غوفمان «Stigma» الوصمة، ومعتمدًا تعريف قاموس مريام ـ وبستر بكونها «حزمة اعتقادات سلبية وغير منصفة لدى مجتمع أو جماعة من الناس حول شيء ما» أو «علامة خزي وعدم ثقة» ـ أي سجية (يفترض تعذر الخلاص منها) تسم شخصًا أو جماعة من الأشخاص (غرابة أطوارهم أو شذوذهم وبالمجمل خصوصية تجعلهم مختلفين بشكل جوهري عنا ـ نحن «الأسوياء»، حسب تعبير غوفمان: «سوف أسمي الذين لا ينأون بشكل سلبي عن التوقعات المعنية بالأسوياء». ولأننا ندأب على استخدام سجايانا (الحقيقية أو المزعومة) مقياسًا تُعايَر وتُقوَّم به إنسانية الآخرين، فإننا نعتقد، نحن «الأسوياء»، «أن صاحب الوصمة ليس إنسانًا تمامًا». والناتج المباشر عن كل هذا هو رفض صارخ للقبول الاجتماعي وتغريب قسري لأناس صنفوا في خانة الشذوذيين. والشخص الموصوم يُطرد ويُحظر من الجماعة التي قد يتطلع إلى الانتماء إليها»2. انتهى الاقتباس الذي لم أستطع اختصاره لأهمية كل كلمة فيه. غير أن عبارة «والشخص الموصوم يُطرد ويُحظر من الجماعة التي قد يتطلع إلى الانتماء إليها» تختصر ما حدث معي شخصيًا ومع أبنائي حين انتقلت من قريتي ومحيطي البدوي إلى المدينة في منتصف الثمانينيات؛ حيث شكل منشئي واللقب الذي أحمله عقبة أمام الاندماج ووسيلة للطرد الرمزي خارج المجال الذي أردت الانتماء إليه. ورغم أني أعتبر نفسي دائمًا خارج المكان، وحرصت على ألا أنتمي لأي قطيع بشري، وجدت ذروة العصبية في المدن الليبية التي طالما اعتبرني عنصريوها «الأسوياء» غازيًا، وتبعتني وصمة كانت خارج إرادتي، وربما الصديق منصور بوشناف الذي يعتبر بلدته بن وليد حاضرة تاريخية عانى من الوصمة نفسها حين انتقل إلى طرابلس ولو في سياق قدح جماعي ضد كل من جاء للمدينة من خارجها. زيجمونت يأتي بهذا الحديث في سياق نظرة معظم أفراد المجتمعات الغربية «الأسوياء» إلى المهاجرين الذين يعتبرونهم بدورهم بدوًا برابرة يغزون الحضارة الأوربية ورفاهها، كما يعتبر البعض لدينا انتقال أي قروي إلى المدينة غزوًا للحضارة في إطار عقيدة الوصمة التي تشبع نهم ما يسمى التفكير الرغبوي لدى البعض.
تأسس الكيان الليبي في ظروف غاية في الصعوبة عبر تضافر كل مكونات المجتمع، بما وصفه منصور العصبية الدينية الموحدة آنذاك، لكن ما تمخض عنها دستور شبه علماني يضمن حرية الاعتقاد، ونخب من التكنوقراط المتعلمين ومن أعيان المدن ومن أعيان القبائل، واستمر ظل القبيلة حاضرًا في المجال الاجتماعي، وشبح الجهوية يطل عبر محاصصة العواصم، ونصيب الأقاليم في تمثيلها ببعض الحكومات، دون أن ننسى يقظة العمل المدني، النقابي، خصوصًا أنشطة نقابة العمال واتحاد الطلاب في ذلك الوقت، لكن ما حدث بعد ذلك أن الأيديولوجيا3 التي تبناها قطاع واسع مما يسمى الحضر والبدو عبر نفوذ قوي للجان الثورية كحركة مركزية هي ما فتكت بمشروع الدولة التي كانت تتقدم ببطء لكنها على الطريق، وفي هذا العقد الأخير أسهمت الأيديولوجيا الدينية (إن صحت التسمية) في تفتيت عصبيات هذا المجتمع التقليدية؛ بل ووصلت إلى تفتيت الأسرة نفسها، ما جعلت الأخ يقتل أخاه.
لم يحدث أن تسيست القبيلة في ليبيا أو تعسكرت كما في دول أفريقية أو غيرها، فالأحزاب بأذرعها العسكرية (الميليشيات) في لبنان، وجهة الديمقراطية العربية يومًا ما، كانت عشائرية يتوارث قيادتها الأبناء حتى الآن، وفي دول أفريقية عديدة كانت قبلية، بينما قوى الثورة فترة النظام السابق، والميليشيات في ليبيا الآن، تقع تحت توصيف المجال المتقاطع المصالح، ولا تمت للقبيلة أو قرابة الدم بصلة، فإما جهوية أو مذهبية كما في العراق، أو عصابات مسلحة تتقاسم النفوذ على المدن كما في بعض دول أميركا اللاتينية، والفرق أنها هناك تمول نفسها بنفسها عن طريق أنشطتها الخاصة، وفي ليبيا وفي العراق تصرف عليها الحكومة من دخل الدولة لتضمن ولاءها، ما يجعل الأزمة معقدة ومتداخلة، واختزالها في اتهام البداوة والقبلية غير دقيق، وينطلق من توارث مبدأ الوصمة المريح من عنت البحث والتحليل والدراسة.
سبق أن كتبت عما حدث في ليبيا في أشهر الثورة الأولى والفترة ما بعد سقوط النظام وصولًا إلى أول انتخابات، على الأقل في المكان الذي أعيش فيه لم يكن ثمة وجود لأي عصبية قبلية، وجرت الانتخابات وفق قوائم حزبية (حكمتها الأيديولوجيا) ومرشحين أفرادا، ولم تلعب القبيلة أي دور في ترشحهم أو انتخابهم، بمعنى أن القبيلة تراجعت تمامًا إلى الخلف بمجرد أن سُنَّ إعلان دستوري وبدأت الأحزاب عملها وفق قانون انتخابات، لكن مع إخفاق ما ترتب عن ذلك من سلطات، وما ترتب عن هيمنة الإسلام السياسي وانتشار للجماعات الإرهابية وعمليات القتل والاغتيالات اليومية، عادت القبيلة لتملأ الفراغ، وكما تحالفت من عقود لمقاومة الفاشية الإيطالية، تحالفت لمقاومة فاشية الإسلام السياسي التي سميتها «الفاشية الثالثة» وحظرت منها في مقالة نشرت في مايو 2011 (الفاشية الأصلية) في جريدة ميادين.
1ـ بيار بورديو. أسباب عملية: إعادة النظر بالفلسفة. ترجمة د. أنور مغيث. منشورات الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان.
2ـ زيجمونت باومان. غرباء على بابنا. ترجمة نجيب الحصادي. منشورات صفحة سبعة للنشر والتوزيع.
3ـ أعتقد أن توصيف الأيديولوجيا لفترة النظام السابق ولِما يحدث الآن غير دقيق، لأن الأيديولوجيات ذات النسق الفكري المنضبط أسهمت في بناء أمم عديدة متحضرة.
مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»
تعليقات