.. وكان البرلمان في برقة يتمثل في وجود المؤتمر الوطني العام الذي جرى تشكيله في العاشر من يناير 1948 وانتهت مهامه في مارس 1950. وأعلن منذ البداية بأن أهدافه تتحدد في: البلاد الليبية مستقلة استقلالاً تاماً موحدة بحدودها الطبيعية. لا تقبل استعماراً ولا وصاية ولا انتداباً أجنبياً. وأن أمير البلاد الشرعي المطاع على ليبيا هو الأمير إدريس السنوسي. صدر ذلك في بنغازي في السابع من فبراير 1948. عقد المؤتمر جلساته برئاسة رضا المهدي السنوسي شقيق الأمير واختير ابنه الصديق نائباً له وفي الواقع ظل يقود الجلسات وإدارة المؤتمر.
لم يكن هذا البرلمان- المؤتمر بعيداً عن جملة الأحداث التي تمر بالواقع الراهن وجميع تفاصيلها وخطوطها المتشابكة. كانت المحاضر الخاصة بتلك الجلسات تدون وتوثق من قبل خليل القلال وهو في الأصل كان محرراً قانونياً للعقود في بنغازي.
يوم الثلاثاء الموافق للرابع والعشرين من يوليو 1949 تابع المؤتمر المذكور مسألة اللجوء السياسي لشباب الإخوان المسلمين الذين حلوا ببنغازي فراراً من ملاحقات تتبعهم في القاهرة وما أعقب ذلك من قيام السلطات المصرية بقفلها للحدود والقبض على مواطنين من بنغازي. في هذه الجلسة كان عضو المؤتمر علي جعودة قد وصل قريباً من مصر التي كان في زيارة خاصة إليها ووضع رفاق المجلس في صورة مشاهداته التي وقف عليها هناك والمعاملة التي عومل بها تجار المواشي من الليبيين في مصر والخسائر التي تكبدوها نتيجة لسوء المعاملة المصرية وقرر المؤتمر حيال هذه التصرفات الاتصال بالإدارة البريطانية الموقتة في برقة والطلب منها علاج المسألة بأسرع ما يمكن، إضافة إلى تعيين وفد من المؤتمر لمقابلة نائب الوالي والبحث معه شخصياً تداعيات الموضوع الذي يشغل بال المؤتمر والمواطنين في بنغازي الذين لم تنقطع حكاياتهم ونقاشاتهم حول الأمر الذي كبر واتسع وفاق حدود المدينة والإمارة أيضاً. صار الموضوع سياسياً وأزمة ومشكلة تتفاقم مع مرور الساعات.
كان هذا أول تواصل من المؤتمر بالموضوع الحيوي بعد وقوعه بحوالي أسبوعين. لم يرض المؤتمر بالتفرج والمتابعة من بعيد لكنه أراد أن يدلي بما يراه ضرورياً وسعياً لحل الإشكال بأية طريقة. ثم في جلسته المنعقدة في يوم الحادي عشر من شهر أغسطس 1949 ناقش ضمن أجندة جلسته مسألة القبض على مواطنين في القاهرة من قبل السلطات المصرية ضغطاً منها على السلطات في برقة لرد وتسليم اللاجئين الثلاثة وإعادتهم إلى من حيث أتوا في الثامن من يوليو. أشار هنا المؤتمر بأنه يذكر الحكومة في برقة بأمر المقبوض عليهم دون أي سبب يبرر ذلك متابعة منه للخطوات التي اتخذتها الحكومة سابقاً حيال هذه التداعيات. جعل الأمر بهذا التذكير أو القرار الذي انتهى إليه في رقبة الحكومة التي كان يتولى زمامها الدكتور فتحي الكيخيا. والده الباشا عمر كان رئيساً للديوان الأميري وقد سعى في إنجاح وصولهم من درنة إلى بنغازي. في درنة كانوا قد مروا بأمين الإمام أحد الطلبة في مدرسة حلوان وسيتخرج لاحقاً بعد الاستقلال في كلية الزراعة من القاهرة. له علاقة بحكم الدراسة والصداقة والعلاقة القبلية الاجتماعية بصديقه منصور رشيد الكيخيا. ابن شقيق الباشا. كان في إجازته الدراسية في بنغازي مثل رفيقه الإمام في تلك الإجازة بدرنة. صداقة ستجمع لاحقا بين منصور والثلاثة في بنغازي على الرغم من فوارق الاتجاه والمنهج.
تمضي الأيام ويحل العيد غبَّ رمضان لكن الحرارة والصيف تفعمان بنغازي وشط جليانة لا يطفيء تلك السخونة التي ظلت تلازمها سخونة اللجوء السياسي للثلاثة الذين اعتبرهم الجميع ضيوفاً على الأمير ولا شيء غير هذا التعريف. سيظل يلازمهم أينما حلوا في بنغازي وأطرافها وحدودها هنا وهناك. لم يبرحوا المدينة والتزموا بدورهم بالبقاء خلالها طوال النهار والليل وحتى نشاطهم وحراكهم ظل واضحاً في إقامتهم داخل قصر المنار ثم في شقتهم بميدان البلدية. وكانوا في كل الظروف تحت الحماية والرعاية من قوات البوليس والسلطة والمواطنين أيضاً. اعتبر الناس وجودهم تحدياً لأي إجراء قد يخل بأصول الاستجارة أو الضيافة. كان ذلك خطاً أحمر لم يتجاوزه أحد على الرغم من كل المحاولات التي بذلت باتجاه إعادتهم إلى ضفاف النيل.
يوم الخميس الثامن من سبتمبر 1949 والمؤتمر يناقش في جلساته خطوات الطريق إلى الاستقلال والنظر في تشكيل وفد يمثله لحضور جلسات الأمم المتحدة في أميركا لم ينس موضوع الثلاثة. ظل يلح ويظهر ويتربع على طاولات المجلس في قصر المنار. الأعضاء يمثلون أعياناً وشيوخ قبائل ووجهاء من المدن ورجال دين وممثلاً عن الطائفة اليهودية ولم ينقطعوا عن مناقشة المسألة. لم يلتقوا الثلاثة. لم يحضر أحد منهم تلك الجلسات. كانوا مطمئنين في غدوهم ورواحهم في الشقة والمدينة ونشاطهم يلوح لكل الجهات باعتبارهم كما مر بنا ضيوفاً على الأمير ولا اعتراض أو شكوك في نواياهم وأغراضهم.
تلك الجلسة كانت طويلة وصاخبة وتناولت المسألة بعكس الجلسات السابقة. رأى المؤتمر أن إجراءات السلطات في مصر من شأنها إضعاف العلائق الطيبة بين شعبين عربيين متجاورين تربطهما صلات رحم عريقة وأواصر صداقة وأخوة قديمتين بسبب إيقاف بعض المواطنين وإرهاق الآخرين بتصرفات غير قانونية وقفل الحدود في وجه التعامل التجاري نتيجة لإجارة الأمير للثلاثة المصريين وفقاً للتقاليد العربية الصميمة واقتداء بسوابق مماثلة حدثت في عهد قريب عند مختلف الأقطار العربية المجاورة. وهنا أيد المؤتمر خطوة الأمير إدريس في هذا الشأن وأكد على عدم تسليم اللاجئين لأن هذا في مجمله يعبر عن شعور كافة الشعب في برقة ولحساسيته تجاه ما يمت بصلة إلى تقاليده العربية وعوائده المحلية التي تقضي باستجارة المستجير وبالإصرار في الذود عنه. وأشار المجتمعون إلى أنهم في لقاءاتهم وأحاديثهم مع الناس في بنغازي على اختلاف اتجاهاتهم وتباين مستوياتهم يشعرون بأن هذه القضية قضية شرف وكرامة وأنهم، أي الأعضاء، عندما يصرحون بهذا فإنهم بالتالي يعبرون عن رأي أولئك الناس بأسرهم ويترجمون عواطفهم وأحاسيسهم. ورأوا مقارنة بما حدث أن مصر بقيادة فاروق لم ترتكب شططاً عندما أجارت مفتي فلسطين أمين الحسيني وآوت الأمير عبد الكريم الخطابي بطل المقاومة في الريف بالمغرب. وأن السعودية أيضاً أجارت رشيد عالي الكيلاني والأردن أجارت حسين توفيق المتهم في اغتيال أمين عثمان. أمثلة قدمها المؤتمر وأشار إلى أنه لم يأت بغريب عندما تصرف الأمير بمثل تصرف الشقيقات الأخريات. تكاد الأمور والمسائل تكون واضحة لا لبس فيها. ورأى المؤتمر أن السلطات المصرية على الرغم من كل هذا عالجت الموضوع بطريقة شاذة وعنيفة وزادت الأمر تعقيداً بالقبض والملاحقة وإغلاق الحدود وقطع العلاقات التجارية. أمور لا تبرر ولا تستحق كل هذا الذي جرى مقابل موضوع الإجارة والإيواء لثلاثة من شباب مصر بغض الطرف عن ميولهم واتجاههم وانتمائهم للإخوان المسلمين. وأكد من جديد على رغبته الشديدة والقوية في عدم تسليمهم إلى مصر مهما كانت الظروف وترك المشكلة الطارئة والمستمرة إلى حكمة الأمير إدريس لمعالجتها بما يتلاءم وشعور الناس الطاغي حيال المسألة برمتها ويستحسن المؤتمر أن يحصر معالجة الأمر بين القصرين في بنغازي وعابدين حفاظاً على دوام حسن الصلات والعلاقة الطيبة.
الموضوع في بنغازي خلق تداعيات استمرت وتجاوزت المقاهي والمرابيع إلى المؤتمر- البرلمان - وتوقف الأمر عند هذا الحد. عاش الثلاثة في بنغازي. اهتموا بالشباب. اختاروا مجموعات لانتشار الفكرة. أغلبهم من طلاب الثانوية أو ما قبلها. كانوا جاهزين لسد فراغهم وإغلاقه بهذه اللوحة التي تشكلت في بنغازي ومنها انطلقت لاحقاً خارج إطارها لتصل إلى طرابلس ودرنة والزاوية وغيرها. كانت الأجواء خلال الإدارة البريطانية مصرية.. الجنيه المصري. البضائع المصرية المنهج الدراسي المصري. كانت أول بعثة وصلت العام 1948 قبل عام من وصول الثلاثة ضمت: محمد عشماوي ومحمد سيد شريف ومحمد بحيري وعلي محمد حمد شاعر أرايت سوسة. وغيرهم وكلهم سيتيحون مجالاً أرحب لمزيد من النشاط والحراك في المدينة. وبالمثل كان طلبة ليبيون أوفدوا من أهاليهم أو من سلطات الإدارة للدراسة في القاهرة والإسكندرية.
الحراك سيتواصل بقوة من ميدان البلدية ولا يتوقف. تتشكل الأسر من الشباب وبرعاية الثلاثة.
يجري الإعداد والانطلاق إلى مرحلة ستستمر..
مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»
تعليقات