تتسم كتابات المفكر السوري جورج طرابيشي بعمق التحليل ودقته وشدة وضوح المفاهيم، وبالتالي، جلاء الصياغة اللغوية. ذلك أن وضوح التعبير اللغوي دليل على وضوح الأفكار في الذهن، لأن التفكير يدور في الذهن مرتبطًا باللغة، فلا تفكير بدون لغة. لا توجد الأفكار في الأذهان مجردة وعارية من اللغة ثم تصب في قوالب لغوية تعبر عنها. لا مجال للقول بأن الفكرة واضحة في ذهني لكن لا أعرف كيف أعبر عنها بوضوح وأنقلها إلى غيري. هذا يجوز عندما يتعلق الأمر بالأحاسيس والمشاعر والعواطف، لأنها لا ترتبط باللغة. لكن لا يجوز في مجال الفكر.
وفيما يلي من السطور نتعاطى مع مقال جورج طرابيشي «الآخر في التراث العربي الإسلامي»*
يستهل طرابيشي مقاله بتقرير أن مفهوم الآخر «واحد من المفاهيم المؤسسة للثقافة المعاصرة على الصعيد العالمي». ويضيف «ومن منظور مفهوم (الآخر) تحديدًا تبدو الثقافة العربية المعاصرة مسرحًا لانقلاب حقيقي». فعلاقة الثقافة العربية الحديثة بالآخر ومفهوم الآخر تنطوي على تناقض صارخ. «فعلى حين أن الثقافة العربية الحديثة تدين للآخر بظهورها التاريخي بالذات؛ إذ لولاه لما كانت من حيث هي ثقافة حديثة، فإن الثقافة العربية المعاصرة تبدو وكأنها تنزع على العكس أكثر فأكثر إلى تأسيس نفسها في قطيعة مع الآخر».
فالنقد، وحتى النقض، الموجه نحو الآخر في الثقافة العربية الحديثة ينصب على هذا الآخر «فقط من حيث أن هذا الآخر مستعمر، وليس من حيث هو حامل حضارة». ويرى طرابيشي أن «المفارقة في الثقافة العربية المعاصرة، بالتمايز عن الحديثة، هي ميل شريحة واسعة من النخبة المثقفة منها المنتجة لها إلى معاداة الآخر من حيث هو حامل حضارة في المقام الأول». ويكشف طرابيشي، في هذا السياق، عن مفارقة أخرى «تبدو أكثر شناعة بعد إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن درجة العداء للآخر تتصاعد طردًا مع كف هذا الآخر عن أن يكون مستعمرًا».
ويبدو لي أن هذه النقطة نابهة جدًا. ذلك أنه أثناء وجود الاستعمار ومقاومته تنشأ تلقائيًا مقاومة لثقافته. ولكن بعد زوال المستعمر واستقرار الدول المستقلة، ينشأ الخوف ليس من الاستعمار العيني المادي، وإنما من ثقافته. لذلك كثر الحديث وكثرت الكتابة عن «الغزو الثقافي» والطرق الأمثل والأفعل في مقاومته والحفاظ على الهوية، وما إلى ذلك.
يصف جورج طرابيشي (الانقلاب الحقيقي) في موقف الثقافة العربية المعاصرة من «الآخر» بأنه سلفية جديدة «لا يعادي الآخر من حيث هو آخر بإطلاق؛ بل يعاديه حصرًا من حيث هو حامل للحضارة».
* في: جورج طرابيشي، من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة. دار الساقي، ط2- 2006. الصفحات 91- 111.
تعليقات