Atwasat

الناظمان

سالم الكبتي الأربعاء 27 سبتمبر 2023, 02:15 مساء
سالم الكبتي

صوتان لا يغيبان. صوت للشعر وصوت للغناء. وكلاهما فن وانحياز للإنسان. الصوت الأول من الأناضول وجباله وثلوجه وقراه. والثاني من الرافدين وهناك ينساب دجله ويهدر على الضفاف معظم الوقت. النخيل ينوح لظهائر الأيام. الأول ولد في مطلع القرن العشرين عام 1902 والثاني في عشرينياته. ناظم حكمت وناظم الغزالي صوتان للحياة. يتدفقان أيضاً بقوة وإن اعتراهما حزن إنساني عميق. كلاهما كان يتكئ على قلب ينزف إبداعاً ويهرق معاناة ويسيل مثل الأنهار القادمة من البعيد..

ناظم وناظم لا ينظمان. لا يدعيان. لا يكذبان. لكنهما يحترقان بنار الفن وجذوة العطاء النبيل. حكمت كان شعره عنواناً للمعاناة. فر من السجون التركية في بلاده عام 1950. وعاش في المنفى. وأدركت بلاده بعد رحيله قيمته فردت إليه اعتباره. صحيح أنه كان من عائلة ثرية إقطاعية لكنه التزم الشيوعية مذهباً وأيديولوجية رداً على معاناته. تجربة خاضها وعاشها. كان عبدالوهاب البياتي الشاعر العراقي مسكوناً به. يقلده ويحاكيه وجمعتهما علاقة وطيدة.

شتاء 1963. فبراير. القاهرة في الليل والنهار. الشمس والنيل وأصوات المواويل وباعة الفول والفل على طول الشوارع والأزقة والضواحي المعدمة في المناطق الفقيرة. وسط المدينة كان مضاء على الدوام كما يصفه ناظم الذي وصل لحضور مؤتمر اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا.

منذ أيام قريبة خلت سقط عبدالكريم قاسم في بغداد وأنصاره من الشيوعيين الذين غيروا مساره وركبوا عليه وقدم البعث وأهل القومية عبر استوديو الإذاعة الشهير. وكان المؤتمر في القاهرة يناقش جملة من القضايا. كانت القاهرة أيامها محط العيون من كل الجهات. اختير ناظم رئيساً له.

المصادر تقول: (أن أحد أعضاء الوفد الصيني المشارك في المؤتمر اعتلى المنصة وطالب بحرمان أحد الكتاب من التصويت. كان يقصد ناظم حكمت لا غيره. كان الصراع العقائدي بين بكين وموسكو في قمته تلك الأيام. أشار العضو الصيني إلى أن هذا الكاتب يمثل هنا في جنبات المؤتمر الأدب التركي ثم مباشرة صاح وسط القاعة بأنه يتحدث عن ناظم حكمت الذي يحمل جواز سفر من موسكو وليس جواز سفر من بلاده الأصلية تركيا. نحن نطالب بانسحابه).

تقول يوميات المؤتمر في فبراير ورواية فيرا زوجة ناظم التي أشارت إلى أن القاعة امتلأت بالدهشة. هنا خرج زوجها الشاعر الكبير من الصفوف واتجه في تمهل نحو المنصة. وصفته فيرا بالقول بأنه لم تظهر عليه أية ملامح انفعال. نظر إلى الجميع وعندما عم الهدوء قال.. إنني أملك الحق في تمثيل تركيا في هذا المؤتمر الذي يضم كتاب آسيا وأفريقيا لأن الكاتب الذي يكتب بلغة بلاده يملك الحق في تمثيل أدبها.

وبشجاعة متناهية قال أيضاً: أعتقد أن المجتمعين هنا كتاب وليسوا شرطة. للأسف لا يوجد في تركيا.. في وطني شاعر أفضل مني! منتهى الصراحة والمواجهة مع شيء من الغرور المطلق وهنا اندلع التصفيق ومعه صاح ناظم.. إن كان الأمر هكذا فإنكم يا رفاقي الكتاب لن تحرموني من حق التصويت بل ستنتخبونني الآن لرئاسة المؤتمر. وارتفعت غابة من الأيدي كما وصفتها فيرا. لقد صار رئيساً بهذا الشكل. هكذا تكلمت فيرا.

ثم مباشرة بعد انتهاء الافتتاح التقى في الصالة الرئيس عبدالناصر. شكره على حضوره ومشاركته. سأله: (إن كان المناخ في مصر يلائمه وهل شعر بالملل في القاهرة وهل تعجبه الهدايا التي كان يرسلها إليه يوميا في الفندق). كان فخماً وسط ميدان التحرير اسمه هيلتون ويخصص في العادة للكبار من الزوار ملوكاً ورؤساء وزعماء..

هكذا تعرف على عبدالناصر الذي كان أيضاً مالئ الدنيا وشاغل الناس مثلما شغل ناظم الفقراء والثوار والشعراء الآخرين وابنه كريم وغابات الأناضول. عملاقان في زمن مضى. السياسة تلتقي الشعر لكنهما مثل النقد لا يلتقيان. وهنا دعاه عبدالناصر تقديرا له في جلسة خاصة جمعتهما على هامش المؤتمر. وكان الكثيرون يتهامسون ويلاحظون ويغبطون ويراقبون. قال عبدالناصر.. لاحظتم الفقر. أنا أعرف ذلك لكنا بدأنا الحرب ضده. تعال لزيارتنا والبقاء طويلا وليس لشهر واحد. تعال لمدة طويلة سنريك كل شيء وربما ستتجسد مصر الجديدة في قصائدك. نحن بحاجة كما كل شيء جديد في العالم لمباركة شاعر عظيم مثلك.

كان عبد الناصر يتابع حكمت. أعجب بعرض الباليه لمسرحية (أسطورة عن الحب) التي ألفها ناظم. جدد وألح عبد الناصر على قبول الدعوة. كانت القاهرة تمتلئ في ذات الوقت باللاجئين والهاربين والباحثين عن الأمان. استقر يومها أيضا عبدالوهاب البياتي الذي يحاكي ناظم وسبق أن التقاه في موسكو أيام قصائد عشرون قصيدة من برلين.. وغيرها. رد ناظم على دعوة الرئيس.. شكراً لك. لكنني شاعر وأقدر الحرية أكثر من أي شيء.

أرحب بالزيارة لكني أعيش فقط على الأموال التي أكسبها من عملي. أنتم يا سيدي الرئيس لا تطبعون كتبي فلا تنتظرني مكافآت هنا وعلى هذا لا أستطيع أن أقبل الدعوة. كما روت فيرا في حديثها الأخير مع زوجها ناظم. استدعته من ضريحه وحاورته وتكلمت معه منذ معرفتهما إلى موته ذلك العام. (كتاب بهذا العنوان صدر عن دار المدى. 2020. ترجمة عدنان مدانات).

والغزالي فنان غنى وأطرب. صوت يقدم من الأقاصي يحمل العراق وحضارته ونخيله وأحزانه وإنسانه. المقامات والموشحات والأغاني والأناشيد والكلمات والتجديد. طالعة من بيت أبوها. فوق النخل. أي شيء أهديك. ميحانا. مدرسة حديثة في الغناء العربي جذورها تمتد بلا انقطاع عبر الأصالة والجودة الفنية الحقيقية. ما زالت تعيش في صدور المتلقين. كان مدرسة وحده في الأغنية العراقية المعاصرة.

زوجته سليمة باشا مراد كانت فنانة هي الأخرى وشاغلة بغداد وملوكها وساستها وإنسانة منحته كل المحبة والتقدير. ورغم اختلاف الديانة توفيت من بعد على دين ناظم ودفنت إلى جواره بعد رحيله بأعوام. لكنها شعرت بالحزن العميق ولم تكتب عنه شيئاً مثلما فعلت فيرا.

منذ ستين عاما في 1963. توقف الصوتان. القصيدة والقيثارة. ناظم حكمت رحل في يونيو بعد المؤتمر وأيام القاهرة بأربعة أشهر. ثم في أكتوبر مضى الغزالي. عاد من رحلة إلى بيروت والكويت حيث هناك لمع كالعادة في سهرات وحفلات. وفي اليوم التالي مباشرة رحل بعد العودة. سرت إشاعات بأنه مات مسموما. كان يحلق ذقنه في الصباح ثم سقط.. ورحل.

صوتان سيبقيان شعرا وغناء وتواصلا مع الأجيال.. التي تظل تعيش القهر والحزن وتفقد العطاء النبيل على الدوام.