(الوطن يصنعه أبناؤه.. رجالاً ونساءً)
في طرابلس حل الربيع بحراك سياسي وطني. تقدمت نخبة من رجالها بمذكرة وافية مؤرخة في الثاني عشر من مارس 1950 موجهة إلى الأمير إدريس في بنغازي. احتوت مشروعاً يتعلق بإنشاء المجلس الإداري في طرابلس وللتفاهم بشأنه مع الإدارة البريطانية هناك وليتحقق بواسطته حسب المذكرة نقل السلطة إلى أهل البلاد عملاً بتوصيات الأمم المتحدة ورأوا أن ذلك كله يمهد لإنشاء الحكومة الوطنية في (دولة ليبيا المستقلة تحت تاج وعرش مولانا إدريس في القريب العاجل).
والواضح أن هذا المجلس هو حكومة تتولى الشؤون في طرابلس مثل حكومتي برقة وفزان. وقد عقدت المذكرة آمالاً كبيرة على تأسيسه باعتباره أكثر ملاءمة للوضع في طرابلس ويتفق مع حاجات ورغبات أهلها. كما أكدت المذكرة تمسكها بأن يكون رئيس هذا المجلس أو الحكومة وطنياً وأعضاؤه من الوطنيين ومستشاروهم من الموظفين البريطانيين في طرابلس، وأن تكون الأمم المتحدة مرجعية عليا فيما قد يحدث من اختلاف في الرأي بين المجلس والإدارة.
أشارت المذكرة المهمة في تاريخنا السياسي قبل الاستقلال بأن سبب التوكيد على عضوية المجلس ورئاسته من الوطنيين يعود إلى الخوف من دخول الإيطاليين أو غيرهم من الأجانب الآخرين إلى المجلس. هذا التوكيد علل ذلك بأنه لا يمكن دخول أولئك الطليان في المسائل الوطنية قبل أن يتعين موقفهم من الجنسية الليبية التي سينص عليها الدستور الليبي كما استبعد وجود أي عضو (إسرائيلي) يمثل الأقليات في المجلس - الحكومة.
وتواصلاً مع الموقف الدولي وإجراءاته في ليبيا رشحت المذكرة الحاج مصطفى ميزران ليكون مندوباً عن إقليم طرابلس للمجلس الاستشاري للأمم المتحدة في ليبيا وفضلت أن يكون مقره في مدينة طرابلس لتسهيل الاتصالات والمشاورات بين المندوبين الثلاثة وحتى لا تبعد الشقة عن (رعايا سمو الأمير). هذه النخبة التي وضعت المذكرة قامت قبل إعدادها وتوجيهها للأمير بجولات عديدة في طرابلس ودواخلها وأشارت باتفاقها مع السكان لعقد مؤتمر وطني عام يحضره أكثر من ثلاثة آلاف ممثل لإقليم طرابلس من أهل الحل والعقد. حددت المذكرة موعد اللقاء في مسجد تاجوراء يوم السبت الخامس والعشرين من مارس 1950. هذه الخطوات المتسارعة للسباق مع الأيام والزمن أفضت إلى مذكرة أخرى تتعلق بالتطور الدستوري أثناء فترة الانتقال ورأت أن يتألف المجلس من رئيس وطني ومن تسعة أعضاء وطنيين من بينهم ممثل للأقلية الإسرائيلية!
ومن جانب آخر يطل مشهد مهم في هذا التسارع فقد وضعت مذكرة التطور هذه نظاماً مقترحاً لعمل المجلس وتحديد مهامه ومناقشاته واتخاذ قراراته ووضع القوانين وغير ذلك من مهام ومسؤوليات تنتهي وفقاً لهذا النظام فور تأسيس الحكومة الوطنية المرتقبة للدولة الليبية.
انطلق المجلس الذي أضحى حكومة في عمله وإنجازاته وسط طرابلس التي ظلت شاهدة على تواجد بعثة الأمم المتحدة ومجلسها الاستشاري وجلسات لجنة الواحد والعشرين ثم جمعية الستين بأعضائهما من كافة ليبيا. حراك يتجه بقوة ويتزامن مع هذه الجهود للوصول إلى الاستقلال. تكونت الحكومة من محمود المنتصر رئيساً ومنصور بن قدارة وزيراً للمالية وفاضل بن زكري وزيراً للمعارف وسالم القاضي وزيراً للمواصلات والطاهر القره مانللي وإبراهيم بن شعبان وزيراً للمواصلات في مرحلة لاحقة ومحمد الميت وزيراً للأشغال.
الحكومة بعد مسار المجلس الإداري استمرت في عملها اعتباراً من مارس 1951 إلى ديسمبر نهاية العام. كان محمود المنتصر عضوين هو وبن شعبان في الجمعية التأسيسية (الستين) قد تفرغا بالكامل لأعمال الحكومة.
ثلاث حكومات في برقة وطرابلس وفزان ظلت تسعى في منظورها للمستقبل في التجربة التي مارستها مع وجود الخطأ والصواب. وكان هذا المنظور الوطني يتعين في التنسيق والتعاون وإن لم يكن غير مباشر لكنه ظل متفقاً بشأنه رغم ما اعترى العمل من اختلافات في وجهات النظر حول تبعات الاستقلال وحقوق الأقاليم والسكان.. التنسيق في خطوات الاستقلال دون تأخير.
وكانت إنجازات هذه الحكومات الثلاث رغم بساطتها وقلة الإمكانات والاعتماد على موارد ومساعدة الإدارتين الأجنبيتين ومساندة الأمم المتحدة تستدعي اهتماماً من الباحثين والدارسين لهذه الخطوات والمنجزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ظروف التخلف والحاجة إلى النهوض المستمر. إن هذه الحكومات الوطنية كانت مدخلاً سياسياً وحقيقياً لمرحلة الاستقلال والاستقرار الذي نشأ عن إعلانه. توقفت تلك الحكومات بمجرد إعلان الحكومة الوطنية الواحدة وظلت صدى لتاريخ مر بأطيافه المختلفة. في السابع عشر من نوفمبر 1950 أصدرت الأمم المتحدة بناء على توصية مندوبها إدريان بلت قراراً يقضي بأن تؤلف الجمعية التأسيسية حكومة مؤقتة تتسلم السلطة في البلاد. وذلك ما تحقق حين تشكلت تلك الحكومة في التاسع والعشرين من مارس 1951. الربيع كان يحل بتشكيل الحكومات. دامت إلى الشتاء بإعلان الاستقلال في الرابع والعشرين من ديسمبر نهاية العام نفسه.
كلف السيد محمود المنتصر برئاستها إضافة إلى وزارتي العدل والمعارف وعضوية علي الجربي وزيراً للخارجية والصحة وعمر فائق شنيب وزيراً للدفاع ومنصور بن قدارة وزيراً للمالية وإبراهيم بن شعبان وزيراً للمواصلات ومحمد بن عثمان الصيد وزيراً للدولة وثمة تعديل أجري خلالها في السابع عشر من أبريل 1951 أضحى بموجبه علي الجربي وزيراً للخارجية والعدل ومحمد بن عثمان الصيد وزيراً للصحة. نخب واختيارات لشخصيات من الأقاليم الثلاث وفقا لتوافق أجمع عليه الليبيون من خلال جمعيتهم الوطنية وبمساندة العالم. بمرور الوقت أخذت الحكومات العسكرية في البلاد تسلم إدارة المصالح تدريجياً لليبيين ونقل السلطات إليهم وفي الأول من يناير 1952 تسلمت الحكومة جميع المصالح التي كانت تدار من قبل الإدارتين البريطانية والفرنسية.
في بنغازي يوم إعلان الاستقلال انتهت كما سبق القول الحكومات الثلاث وأعلن مع الاستقلال تشكيل الحكومة الأولى بعد إعلانه وتكونت من محمود المنتصر رئيساً ووزيراً للخارجية وفتحي الكيخيا نائباً له ووزيراً للعدل والمعارف ومنصور بن قدارة وزيراً للمالية والاقتصاد وعلي أسعد الجربي وزيراً للدفاع وإبراهيم بن شعبان وزيراً للمواصلات ومحمد بن عثمان وزيرا للصحة ثم عدلت بتعيين محمد الساقزلي وزيراً للمعارف وأبوبكر بونعامة وزيراً للمالية. واستمرت الحكومة إلى الثامن عشر من فبراير 1952.
في بداية توليها المهام أصدرت الحكومة نشرة تتكون من ثماني صفحات بعنوان أهداف الحكومة الليبية المتحدة اشتملت تسع عشرة نقطة لتحقيق أماني البلاد والتعاون بينها حكومة اتحادية وبين حكومات الولايات الثلاث والشعب من جهة أخرى. الأهداف تعرضت للدستور باعتباره ضامناً لخير الفرد والمجتمع ولفتت النظر إلى أن شعبنا شعب صغير وعلى الرغم من أنه يمتلئ حماسة وقومية فإنه لن يصمد مطلقاً أمام التيارات الحزبية.
وأشارت إلى الانتخابات وتكفلت بأنها ستعمل على إنجاحها مؤكدة عدم التهاون مطلقاً مع العابثين حتى يعبر الشعب عن رغبته. وكذا إلى الشؤون الخارجية والأقليات والمساعدات المالية الخارجية ونظام العملة والنظام الإداري في الدولة وتحسين البنوك والتسهيلات المالية والتطور الاقتصادي والتجارة الخارجية والجمارك والرسوم والتعليم والصحة والعمال والترفيه الاجتماعي والمواصلات والقانون والنظام وإصلاح البلديات والأراضي والممتلكات.
وهو برنامج عمل مفصل عن أحلام الحكومة وتطلعاتها لتحقيق الأفضل على الدوام. هذه من نقاط البداية المهمة لتكوين ليبيا الحديثة بعد استقلالها وعبر ظروفها الصعبة التي اجتازتها بالطموح والصبر والأخطاء والهنات.
تواصلت الحكومات وتوالت على مدى سبعة عشر عاماً شهدت اكتشاف البترول والاستفادة من عوائده وبعض مظاهر الفساد في الدولة على المستوى الشخصي المحدود لدى بعض المسؤولين والأفراد. لم يكن ظاهرة عامة للدولة والكثير من الأحداث التي مرت بليبيا والمنطقة. بلغت الحكومات في عددها أحد عشر. انتهت مسيرتها في الحادي والثلاثين من أغسطس 1969. أدارت الصراع ووضعت الحلول وواجهت المشاكل وضمت العديد من الوجوه الجديدة في مراحل لاحقة. سيكون ذلك مفصلاً في حلقات قادمة مستقبلاً.
تعليقات