Atwasat

ستزهر زهورك يا نوارة جبلنا

محمد عقيلة العمامي 5 أيام
محمد عقيلة العمامي

ليلة خميس يوم 21 فبراير 1963 بُعيد إفطار يوم رمضاني، أحسسنا في بنغازي، بهزة أرضية استمرت لدقائق، لم يطل الوقت حتى قطع الإرسال الإذاعي؛ لم يكن حينها التلفزيون قد باشر بثه في ليبيا. أعلن المذيع أن زلزالاً ضرب مدينة المرج. سريعاً ما تجمع الشباب وانطلقوا نحو مدينة المرج، التي تبعد حوالي 100 كيلومتر عن مدينة بنغازي للمساهمة في إغاثة الناس. حينها اعتبر هذا الزلزال من أكبر الكوارث الطبيعية التي شهدتها ليبيا في تاريخها المعاصر، فلقد بلغت قوته حوالي 5.3 درجة على سلم ريختر. كان مركز الزلزال «قرية سيدي دخيل» قرب طلميثة. همدت الأرض، من بعد وفاة 243 شخصاً وجُرح المئات. كما أسفر الزلزال عن أضرار مادية جسيمة في المباني والممتلكات. دمرت معظم أحياء المدينة. استمر الشباب يبحثون وينقذون الضحايا من تحت الأنقاض، طوال أيام وليالٍ.

الأديب الراحل خليفة الفاخري، رفقة الرياضي خليفة بن صريتي، وسالم الترهوني، وعبدالقادر البعباع، وآخرين كانوا من أوائل شباب بنغازي الذين انطلقوا لمساعدة الناس.

في مقالة للفاخري عنوانها (وعلى الأرض السلام) نشرت بجريدة الحقيقة، وضمها كتابه (موسم الحكايات) وصف حادثة الزلزال التي شارك فيها، فكتب عنها، وأريد أن أنقل إليكم فقرة مما كتبه في المقال الذي أشرت إليه رامياً الوصول إلى نقطة ما، سوف تنتبهون إليها بالتأكيد كله.

 يقول الفاخري: «... وانفجر الزلزال ذات ليلة في مدينة المرج، في أيام رمضان الأخيرة، ولقد رحل صديقي إليه هناك على الفور.. كانت المدينة غارقة في الظلام والصخب، وكانت أعمدة النور ملقاة في عرض الشوارع، والأشجار وركام الصخور، والأحجار، فيما أخذت سيارات الجيش تسلط أضواءها على الرجال المنهمكين في الحفر عبر الأنين والصراخ والأمطار المنهمرة على نحو موصول!

      ولقد تيبست أوصاله من الصقيع الحاد في بادئ الأمر، ثم طفق يشارك الآخرين في حمل المتضررين إلى مبنى المحكمة، وسط الأوحال، ونحيب الصغار مدفوعاً بشيء هائل المد على نحو غامض، حتى أن الأمر كله بدا مجرد حلم معتم موحش، إلاّ أن  ذلك بدا يتضح قليلاً.. قليلاً عندما وجد نفسه قادراً على الرؤية بصلابة بين الجموع العملاقة الملطخة بالدم والطين والعرق، وإذ تقادم الليل، جمع بضعة أعواد من الحطب وأشعل ناراً مع أربعة آخرين، وتحلقوا هناك في صمت وقور انتظاراً إلى وفود أول خيوط الضوء فيما توهج اللهب يعكس الإجهاد في العيون، ثم سعل أحدهم:

<<- كنت أحب ابنة عمي، وقد تركت الليلة آخر نبض لها على كتفي ..». كذلك قال كأنما يحدث نفسه

<<- تهشمت جارتنا محتضنة أحد أحفادها، شيء محزن. لا يرى المرء هذا دون أن يخنقه البكاء». هكذا ردد الآخر محركاً جمره بعود صغير.

<<- حسن إننا بذرنا الأرض قبل أن يحدث هذا..» وأشعل علبة سجائره الفارغة.

<<- اللعنة على كل الموسم ..». كذلك نفث أحدهم ملقياً بورقة صنوبر إلى النار.

وتنهد صديقي قائلاً:

<<- سيشيدون مدينة جديدة بالتأكيد!.>>

وللموضوع بقيه قد يعود إليها من لم يقرأ هذا المقال من قبل. أما أنا فأريد أن أضيف نقطتين مهمتين.

أولهما أنه بالفعل سريعاً ما أسرع رجال العهد الملكي بإعلان بناء مدينة جديدة بمواصفات عالمية حديثة، وسريعاً ما كُلِّف رجال مشهود لهم بالخبرة والسمعة الحسنة، وسريعاً ما بدأت إنشاءات المدينة، واستمرت حتى بعد سقوط النظام الملكي، إلى أن احتفل الناس باستلام منازلهم، في عهد القذافي.

الثانية أنه أثناء مراحل الإغاثة كلفت لجان وكان من بينها من اتقوا الله وكانوا عوناً للناس ومنهم، من استغل الحال، واستقطع منافع شخصية له! وما زالت أشعار تتردد قيلت في أولئك الذين خانوا الأمانة منها قصيدة اشتهرت في ذلك الوقت يقول مطلعها على لسان أحد المتضررين:

<<... لجنة تموين (الشليوني) يا مضنوني، كيفك حتى كنا طردوني ..

   لجنة منصوبة عالحيلة قوم زطيله هردك جو من كل قبيله

   لجنا جاء فيها عثمان، ابليه بجان، جعنا مكتف عريان ماشي للفرجاني، وهو مجنوني يرجا في قولة كووني..!>>

   وما زال الناس حتى الآن يترحمون على المهندس حمدي محمد بن عامر، الذي تولى مشروع مدينة المرج الجديدة من بدايته حتى الانتهاء منه عبر عهدين، وكان مثلا للنزاهة والذمة الطيبة والتفاني في العمل والإخلاص له، وكذلك معظم من عمل تحت إمرته، إن لم يكونوا جميعا.

التاريخ.. التاريخ لا يرحم أحداً يسيء للوطن والناس، ولا ينسى أحداً حقق ذمة الإنسان النقية، وكبرياءه وشموخه.

    سوف لن يترك الليبيون لا درنة ولا بقية المدن التي تضررت من كارثة إعصار (دانيال) ولن ينسوا أبدا، من يقف معهم ويراعي ذمته وأمانته، ولن يغفل عمن يستثمر هذه المصيبة لمنافعه الشخصية، سياسية كانت أم مادية. أما نحن فلا نملك إلا أن نبتهل وأن يكرمنا الله ويسلط علينا أخيارنا الذين يراعون الله قياماً وقعوداً وعلى جانبهم.

   نحن معك يا جبلنا الأخضر الحبيب، ومع كل من يريد الخير لك.. ولليبيا كافة.