محمد خليفة مثقف مهم متابع ومفكر، ومجادل رحب الصدر. ومساحة خلافاتنا، بل واختلافاتنا، مع بعض أوسع بكثير من مساحة اتفاقنا. وقد جرت بيننا نقاشات وحوارات كثيرة عبر مقالات نتبادل فيها الردود بكل رصانة وهدوء وتقدير. الأيام الماضية نشر على صفحته مقالًا بعنوان «منصور بوشناف: مثقف ما بعد الحضارة» يرد فيه على مقال لمنصور بعنوان «تجربتي في أوروبا»، أختلف فيه مع معظم طرحه الوارد في هذا المقال.
لكنني أود أن أناقش هنا نقطة في منتهى الالتباس والحساسية أثارها محمد، وهي تلك النقطة المتعلقة بالتصنيف السياسي لمعمر القذافي ونظامه.
يقرر محمد خليفة أنه من محدودية النظر وقصره وسطحية الفهم «اعتبار بعض الليبيين أن القذافي كان إنسانًا وطنيًا، بالرغم من أن الوطنية كلمة فارغة وصفة تافهة».
ويرى أن القذافي لا يختلف عن موسوليني ذلك أن «ممارساتهما واحدة: (إعدام الليبيين في الميادين العامة ومصادرة أموالهم)». وأنه يمكن اعتبار «القذافي جزارًا وطنيًا» بينما موسوليني جزار إيطالي، «بالرغم من أن ممارساتهما الفاشية في حق الليبيين واحدة!»، وأنا أتفق تمامًا مع محمد خليفة في هذا، ولا أتفق معه في كون «الوطنية كلمة فارغة وصفة تافهة».
«الأنظمة الوطنية» مصطلح سياسي من القاموس الماركسي. ويقصد به تلك الأنظمة التي تعادي الاستعمار والإمبريالية وتسعى إلى تحقيق تنمية مستقلة. صحيح أن الأنظمة العربية الموصوفة بهذه الصفة لم تحقق هذا الإنجاز، لكن لا يمكن نكران أنها أنجزت بعض الإنجازات على هذا الطريق.
وإذا ما حصرنا حديثنا في هذا الخصوص بنظام القذافي، ماذا يسمي محمد خليفة طرد القواعد العسكرية الأميركية والبريطانية من ليبيا، واستعادة الأملاك من المستوطنين الإيطاليين وتوزيعها على الليبيين؟ وماذا يسمي إنشاء المشاريع الإسكانية على المساحات التي كانت تحتلها أكواخ الصفيح وتوزيعها مجانًا على الليبيين؟ ماذا يسمي التوسع في نشر التعليم وجعله إجباريًا حتى الصف التاسع؟ وماذا يسمي التوسع أيضًا في نشر المرافق الصحية ومجانية الدواء؟
هذه كلها إنجازات وطنية تحسب لنظام معمر القذافي.
لقد استمر هذا التوجه الوطني طيلة العشر سنوات الأولى من عمر النظام، وبدأ التراجع مع بداية الثمانينيات. وهذا النكوص معروف ومدروس في التحليلات الماركسية التي تصنف هذه الأنظمة من الناحية الاجتماعية على أنها أنظمة البرجوازية الصغيرة التي لا تعتبرها التحليلات الماركسية طبقة مستقلة لأن موقعها ليس محددًا ولا ثابتًا في عملية الإنتاج الاجتماعي، وإنما هي شرائح اجتماعية متحركة، تغير من طبيعتها إعادة توزيع الثروة الاجتماعية التي تقوم بها هذه الأنظمة توزيعا أكثر عدالة.
فيتحرك، جراء ذلك، جزء منها نحو الأعلى ليحتل مواقع طبقية أعلى ويبقى جزء منها مثلما هو، ويقد ينزل جزء آخر إلى مواقع أدنى.
هذا الحراك الاجتماعي المنبني على تحولات اقتصادية يغير من طبيعة التوجه السياسي والممارسة السياسية للنظام، بحيث يضمر فيه ويتلاشى البعد الوطني.
تعليقات