Atwasat

(المُجند)» رواية حبشية عن حرب ليبيا ضد الاستعمار

إبراهيم حميدان الخميس 07 سبتمبر 2023, 04:49 مساء
إبراهيم حميدان

تُعدُّ رواية «المُجند» لمؤلفها الأكاديمي الإريتري غيبريسوس هايلو الذي ألفها باللغة التغرينية الأفريقية في 1927 ونشرها في 1950 أول رواية إريترية، وواحدة من أقدم الروايات في الأدب الأفريقي، وقد ترجمها إلى الإنجليزية غيرماي نجاش ونُشرت في 2012، وقام بترجمتها عن الإنجليزية الأستاذ فرج الترهوني تحت عنوان «المُجند: رواية حبشية عن حرب ليبيا ضد الاستعمار» ونشرتها دار الفرجاني في 2022.

تقدم لنا الرواية قصة المجندين الإريتريين الذين يطلق عليهم الراوي اسم «الأحباش» في قوات المستعمر الإيطالي الذين جلبهم من بلدهم إريتريا التي كانت محتلة من الاستعماري الإيطالي كي يقاتلوا المجاهدين الليبيين الذين كانوا يدافعون عن بلدهم ضد ذلك الغزو الإيطالي.

الشخصية المحورية في الرواية الشاب توكوابو، وهو الابن الوحيد لأبويه المتقدمين في السن، وتبدأ الرواية بقدومه لهما مرتديًا البدلة العسكرية مودِّعًا وقد قرر، دون أن يستشيرهما، أن يسافر رفقة المجندين من أبناء بلده وتحت قيادة ضباط الاحتلال الإيطالي الذي كان يحتل بلده لكي يقاتل الليبيين في أرضهم، وهو يفعل ذلك بدعوى اكتساب شهرة كبطل. فقد كان هو وغيره من المجندين تحت تأثير أغاني الشباب الرائجة في تلك الفترة في المجتمع الإريتري التي كانت كلماتها تقول: «لا يرفض الذهاب إلى ليبيا إلا النساء» ويغني الصغار، مطلقين كلماتهم المسمومة: «عودي إلينا لاحقًا يا طرابلس امنحينا بعض الوقت حتى نشب عن الطوق» ص39

وعند توديعه لوالديه في محطة القطار الذي سينقله رفقة بقية المجندين يقول له الأب: «كنتَ نورَنا وفرحَنا ونشعر بعدك باليُتم. لماذا ترغب في القتال من أجل الأجانب؟ ما الفائدة لك ولشعبك أن تحمل السلاح وتقاتل في الخارج؟» فيما يشيعه الناس باللعنات وقد شاهدوا والدته تسقط مغشيًا عليها حزنًا على فراقه ص40-41

سوف يدرك هو وزملاؤه معنى وأهمية تلك الكلمات القليلة المعبرة التي قالها له والده في محطة القطار بعد أن يخوض تجربة القتال ضد المجاهدين الليبيين في الصحراء الليبية، ويتجرع هناك الألم والقسوة، ويرى الممارسة العنصرية من قبل المستعمر الإيطالي تجاه المجندين الذين يعاملهم كالحيوانات. وكأن الذهاب إلى الحرب في ليبيا كان طريقًا لاكتشاف بشاعة المستعمر، واستعادة الوعي.
تبدأ المشاهد القاسية منذ لحظة استعداد الأحباش لصعود القطار؛ حيث «يتعرضون للضرب بالسياط من قبل الشرطة العسكرية»، «لكن الأكثر إثارة للقلق في ذلك المشهد هي الشاحنات السوداء التي جاءت هادرة مثل أسود جائعة تستعد لابتلاع أبناء الحبشة في بطونها الوحشية» ص 43

يتكرر هذا المشهد على نحو أكثر حزنًا ومأساوية عند عودة المجندين من الحرب في ليبيا، وتكون عائلاتهم في انتظارهم وهم في أشد حالات القلق، فلا تعرف الأسرة ما إذا كان ابنهم من ضمن العائدين من الحرب أم قتل هناك فيتعرضون مرة ثانية للضرب من الشرطة العسكرية، وتحدث فوضى كبيرة وسط ذلك الحشد، بعض الأسر يعانقون ابنهم العائد، وبعضهم الآخر ينخرطون في البكاء لأن الابن قتل في الصحراء وليس من حقهم حتى استلام جثته، فقد تركت هناك في الصحراء تتناهشها الطيور والحيوانات.

تأخذنا أحداث الرواية لنتابع رحلة المجندين تحت قيادة الضباط الإيطاليين عبر القطار الذي يوصلهم إلى ميناء مصوع، وهناك يصعدون إلى السفينة التي كانت جاهزة للمغادرة «الضباط الإيطاليون كانوا يجلسون على سطح علوي بعيدًا عن البقية. أما الأحباش فقد تمركزوا في العراء؛ حيث لا ملجأ من حرارة الشمس ومن الأمطار. كان مكانًا يليق بالحيوانات» ص46
الليبيون ليسوا أعداءكم يوظف الكاتب تقنية الاسترجاع؛ حيث يعود إلى الماضي خلال سرده، كما يوظف التراث الشفوي الإريتري من أمثال شعبية وأشعار تراثية، يستعيدها توكوابو ويتذكر والدته ووالده، ويمتلئ قلبه وقلوب رفاقه بالحزن والأسى وهم يرون ميناء مصوع يهرب بعيدًا، تصل بهم السفينة خلال الأيام التالية ميناء بورسودان ثم السويس وبورسعيد لتصل بعد عدة أيام إلى ما يسميها الراوي «المدينة الأسطورية» درنة.

الغريب في الأمر أن الراوي يصور لنا لحظة وصول المجندين إلى درنة باعتبارها أولى خطواتهم نحو الصحراء الليبية، وهذا غير صحيح، فدرنة هي أرض الخضرة والمزارع والزهر والوادي والعمارة، وليست منطقة صحراوية: «نزلوا من السفينة مثقلين بالألم والخوف، وبدأوا في المشي على رمال الصحراء الليبية الملتهبة» ص 54
ويسجل الكاتب مشاعر المجندين وهي تتحول وتتغير من الحماس للقتال إلى الندم على تركهم لبلدهم فور وصولهم درنة، فبمجرد توقفهم نصبوا خيامهم واستلقوا للراحة بعد أن أتعبتهم رحلة البحر لعدة أيام فناموا بسرعة «وفجأة انطلق صوت داخلي مجهول يخترق عقول المجندين يقول لهم: الليبيون يراقبونكم من الأفق ويقولون لبعضهم البعض: هل رأيت هذا الكلب الحبشي الذي باع حياته مقابل المال؟ احذروا أيها الأحباش الليبيون ليسوا أعداءكم، فهل ستكونون قادرين على التعرف على عدوكم الحقيقي؟» ص54

لقد وجدوا أنفسهم يسيرون خلف قادتهم المستعمرين الإيطاليين الذين ركبوا البغال وراحوا يقودونهم أيامًا وسط الصحاري القاسية، تشويهم الشمس في النهار بلهيبها، وتغزوهم الرمال فتدخل في أحذيتهم وأنوفهم وعيونهم وأفواههم، وأقدامهم تحترق وتمتلئ بالبثور والقروح. وفي الليل ينامون على الرمل دون أي فراش، أما القادة الإيطاليون الذين ركبوا البغال طوال النهار فقد نصبت لهم خيمة لحمايتهم من برد الليل والعواصف الرملية، كما جهزت لهم أسرة وزُوّدوا بحاجتهم من الماء.

يصف الراوي الليبيين بأنهم كانوا حريصين على دينهم، ولا تفوتهم صلاة لأي سبب من الأسباب، وأنهم معروفون بالكرم وحسن الضيافة وحبهم لحريتهم، ورغم أنهم كانوا يفتقرون إلى الأسلحة والذخيرة، ولم يكن لديهم ملك أو رئيس لقيادتهم، بذلوا قصارى جهدهم لإنقاذ بلدهم من الأجانب. ويقارنهم بالأحباش الذين لم يفعلوا شيئًا في البداية عندما تم الاستيلاء على أرضهم وانحنوا للإيطاليين كالكلاب، ولكن نراهم اليوم يستعدون لمحاربة هؤلاء الليبيين الذين أرادوا فقط الدفاع عن بلادهم. ص62

أما المعركة الحربية التي هاجم فيها المقاتلون الليبيون المجندين الأحباش تحت قيادة الإيطاليين فيقول عنها إن الثقافات الثلاثة اختلطت في هذه المعركة، ويقصد طرق القتال الليبية والإريترية والإيطالية.

عقب المعركة يُكلّف توكوابو في تلك الليلة بالحراسة فيستسلم لخواطره وسط سكون الليل، فيتذكر والديه، ويقوده التفكير إلى مقارنة الليبيين بالإريتريين: «الليبيون يقاتلون من أجل هذه الأرض القاحلة. أما نحن؟ علينا اللعنة! لم نحرك ساكنًا عندما جاء الايطاليون لاحتلال أرضنا (...) الليبيون هم من البدو، وكان ينبغي ألا يهتموا كثيرًا؛ حيث بإمكانهم التحرك بسهولة تاركين هذه الأرض القاحلة للإيطاليين. رغم كل هذا، لم يركعوا للحكم الإيطالي» ص78

رحلة الندم والعطش القاتل
الفصل الرابع والأخير من الرواية حمل عنوان «العطش القاتل» ويرصد عودة المجندين إلى السفينة وهم في حالة شديدة من الإنهاك والظمأ، فلا أثر للماء من حولهم، بينما كان الضابط الإيطالي يسير أمامهم وقد حمل الماء على بغلته هو ورفاقه. وعندما يكون الضابط في خيمته ليلًا يقف المجندون حراسًا لخيمته، يمنعون أي مجند من الاقتراب منها، وهم في حالة شديدة من العطش، قلوبهم تقفز إلى حناجرهم كلما سمعوا صوت صب الماء داخل الخيمة، يصفهم الراوي بهذا المشهد: «مثل الكلاب، إذا قارنتهم بالإيطاليين. في الواقع، كانت الكلاب تلقى معاملة أفضل، فعلى الأقل تأكل بقايا طعام أسيادها» ص82

السير فوق الرمال الساخنة وتحت الشمس الملتهبة وفي مواجهة الغبار المتطاير يجعل المجندين يترنحون في الطريق ويتساقطون، ويهرب القائد الإيطالي على بغلته خوفًا من أن يقتلوه فيما يسقط المجندون عطشًا في الطريق، والبعض الآخر قتل بعضهم بعضًا عندما وجدوا بئرًا فماتوا وهم يدوسون بعضهم بعضًا في تسابقهم نحو البئر، وينجو توكوابو وبعض من رفاقه ويصلون السفينة وهم في حالة شديدة من الإرهاق والعطش والحزن على رفاقهم الذين سقطوا خلال الحرب على أيدي الليبيين أو خلال رحلة العودة الشاقة، ويغنون في رثائهم لهم: «لايذهبنَّ أحدٌ إلى طرابلس، لئلا يقطع بالسكين أو السيف الطويل» ص86

مشهد الختام في الرواية يصور عودة توكوابو إلى بيته ليجد أمه قد توفيت قبل أيام من وصوله، فيجهش بالبكاء العنيف هو ووالده، ويمتلئ بشعور الندم مرددًا:
«ذاهب إلى أرض بعيدة
ليس من أجل رفعة وطني
تاركًا عائلتي ورائي
يتألمون ويذرفون الدمع لعامين
موقنًا أنني قتلت أمي سعيًا وراء خيلائي
وهأنذا أعود مجرجرًا قدميّ
لأبين تفاهتي
لمن أسأتُ إليهم من أهلي وأحبابي
والذين أستحق لعناتهم» ص95

غيرماي نجاش مترجم الرواية إلى اللغة الإنجليزية في تقديمه للترجمة يقول «تعتبر رواية المجند معقدة للغاية، في اهتماماته المواضيعية (تيماتها) وفي شكلها أيضًا.(...) وجانب أساسي آخر من اهتمامات الرواية هو ارتباطها بالتراث الشفوي أو المحكي» ص12
ويشير أيضًا إلى أنه على الرغم من مرور قرن على تلك الحرب الموصوفة في الرواية، فإن العديد من العائلات في إريتريا لاتزال تروي قصص الأجداد أو الأقارب الآخرين الذين تم تجنيدهم في الحملة العسكرية على ليبيا، وهذا ربما ينطبق أيضًا على القصص التي تُروى شفويًا عن تجنيد إيطاليا لليبيين في عدوانها على إثيوبيا من عام 1935وحتى 1941 وقد كتب القاص الراحل علي مصطفى المصراتي قصة قصيرة بعنوان «غائب في الحبشة» تروي قصة ليبي شارك في تلك الحرب، لكنه انضم إلى المقاومين الأحرار ولم تعد تذكره سوى تلك العجوز وهي تلح على الناس أن يكتبوا لها خطابًا لابنها الغائب في الحبشة (علي مصطفى المصراتي، خمسون قصة قصيرة، الدار الجماهيرية للنشر، 2002)
كما تناولت رواية «بر الحبش» الصادرة عن طيوب الثقافية، والفائزة بجائزة أحمد إبراهيم الفقيه، لمؤلفها محمد مفتاح الزروق في جانب منها قصة تجنيد الليبيين من قبل المستعمرين الإيطاليين للقتال في حربهم ضد إثيوبيا.
أما لورا كريسمان الكاتبة والناقدة والأستاذة الجامعية في جامعة واشنطن، فتصف في مقدمة الطبعة الإنجليزية للرواية أن رؤية مؤلفها هايلو «تقترب من رؤية مفكري منتصف القرن العشرين» فرانز فانون وإيمي سيزير في تسليطه الضوء على المرحلة الاستعمارية التي يُجردها من الإنسانية، وهايلو في هذه الرواية مثل فانون «يحصل على تحليله السياسي من خلال فحص ظاهري للذاكرة، والعواطف، والخيال، والحواس؛ حيث يلعب قلب الإنسان، بالنسبة لهايلو، دورًا مركزيًا موحدًا، كما تفعل أغاني البشر» ص32