Atwasat

وجعُ الغياب

جمعة بوكليب الأربعاء 07 يونيو 2023, 12:22 مساء
جمعة بوكليب

مرَّ عام، عامان، وهذا العامُ السادس، ولم أرَ الابتسامة تضيء وجه محمد الفقيه صالح، ولم أسمع نبرات صوته تصلني عبر الهاتف، وهو يحدثني، ويسامرني، ويضاحكني، أو وهو يقرأ لي آخر ما كتب من قصائد. ولم أقرأ له مقالة في صحيفة، أو مجلة، أو دورية أدبية، أو قصيدة جديدة منشورة.

من كان يصدق أن الولد الذي سرح صغيرًا في شوارع، وأزقة، وأحياء طرابلس، وراء قطعان الحروف حد الشغف والوله، قد خطفته ـ على حين غفلة منا ـ يد المنون في منتصف الطريق إلى الوطن الذي حلمنا به معًا؟

من كان يظن أن الشاعر الذي اكتشف لنا، بذائقته وحسِّه الشعري المرهف، دروبًا لم نطرقها من قبل للقصيدة، يختفي من بيننا، في لمح البصر، ونحن لاهون، تاركًا لنا حسرات في القلوب؟ آه.. ما أفدح وجع غيابه!.

خلال الأيام القليلة الماضية، كانت الذكرى السادسة لوفاته، ولاختفائه الفجائي من عالمنا، مرت بصمت أقلقني وأزعجني. قلة قليلة من أصدقائه وأحبابه، لا يتجاوزون عدد أصابع يد واحدة، أو أكثر قليلًا، تذكروه، وبكوه في إدراجات فيسبوكية قصيرة، وترحموا عليه، وخيَّم الصمت مجددًا بظلاله، كستائر ثقيلة أُسدلت، تغلفها ألوان مرارة داكنة.

وكأن محمد لا يستحق ذكرًا، أو كأن ذكرى رحيله لا تستحق إحياء، أو كأن طرابلس مدينته، وليبيا وطنه، لم يعد لديهما وقت للتوقف، والتذكر، والتوجع، بسبب ما أصابهما به الزمن من مآسٍ وكوارث.

وكنت خطأ أعتقد أن أصدقاءه وعشاق شعره لن ينسوه، وأنهم سيحيون ذكراه كل عام، وسيلتقون ليقرأوا معًا قصائده، ويعيدوه إلى الحياة مجددًا، مرَّة كل عام، لكن أصدقاءه وأحباء شعره أناس من لحم ودم مثل غيرهم، وجدوا أنفسهم في خضم عاصفة، يسبحون ضد تيار ظلامي عنيف أجهدهم، وصار كل همهم أن يبقوا رؤوسهم طافية فوق سطح الماء، حتى لا يجرفهم الموج بعيدًا، ويبتلعهم عتم النسيان.

قبل وفاته بأسبوعين يوم 3/ 6/ 2017 على الأكثر، كنتُ ـ لغبطتي ـ أجالسه في مقر سكناه بمدينة مدريد. عنَّ لي ـ وقتذاك ـ أن أزوره، وأقضي أسبوعًا في صحبته، أتجاذب معه الحديث، وأستمع إليه يقرأ عليَّ آخر ما كتبه من قصائد، لكن الزيارة تلك ـ لسوء حظي ـ كانت مربكة.

كان صديقي محمد في عالم وحده، كأنه يعرف أن حظوظ نجاته قد قاربت على الانتهاء، وأوشك الداء الخبيث أن يطبق عليه، وكان ـ حين نكون وحدنا ـ يميل للصمت على غير عادته، أو يشعر بإرهاق وتعب من الجلوس، ويستأذنني طلبًا لاستلقاءة قصيرة. كان يتمدد على الكنبة، ويغمض عينيه، وفي واحدة من جلساتنا المسائية الحميمة، فاتحني بآخر تطورت الداء الذي تسلل إليه في غفلة، وباغته مفترسًا. ولم تجدِ نفعًا مشارط الجراحين في اجتثاثه، لكنه كان صبورًا، وأدركت في تلك الأمسيات الطويلة، أنني ـ في حقيقة الأمر ـ كنت في وضع المودع وليس الزائر.

على عكس زياراتي السابقة له، لم نخرج في تلك الزيارة معًا للتمشي إلا مرَّة واحدة، فيما أظن، وكانت قبل مغادرتي عائدًا إلى لندن، وبرفقتنا رفيقته وأم أطفاله. جلسنا في مقهى كانا يعرفانه، ويفضلان ارتياده، لا يبعد كثيرًا عن مقر إقامتهما. في ذلك الصباح المميز، وفي تلك الجلسة القصيرة، عاد إلينا من غيابه القسري، محمد الذي عرفناه. وحين انتهينا صافحتهما مودعًا، وغادرت إلى مقصدي، وعادا هما معًا إلى البيت؛ حيث سيخرج محمد، صباح اليوم التالي، كعادته إلى حديقة بيته، ويأكل، هو والطير، من شجرة التين.

بعد قرابة أسبوعين من عودتي إلى لندن، هاتفتني زوجته ربيعة صباحًا باكية، ونعته إليَّ. فلم أصدق. كنت أعرف أن محمد قد أعد ـ منذ وقت ـ حقيبته، وسيغادر في رحلة بعيدة، لن يعود منها، لكني لم أكن أتوقع أن يكون الرحيل قريبًا. وما كنت أظن أنني، سأعيش بعده، وأرثيه لنفسي، ولأصدقائه، ولأبناء وطنه، وكأني أكتب رثائي.

غادرني محمد، العفيف، النظيف، على حين غفلة مني قاصدًا نجمًا بعيدًا، راوده كرؤيا، أو كحلم في منام، وتركني وحيدًا في قفار وحشة طريق، وليل معتم، بلا رفيق يؤنسني ويشد من عضدي، في متاهات ما تبقى من منعطفات رحلتي، ويحثني مشجعًا على مواصلة المسير للقاء النور والدفء في صبح قريب وبهيج.

رحم الله محمد الفقيه صالح، أخي وصاحبي، ورفيقي في سنوات المحنة والعذاب، ومعلمي وشاعري المفضل. ولا عزاء لأصدقائه ومحبيه سوى الصبر.