Atwasat

روايتان عن تشريح الخوف

سالم العوكلي الثلاثاء 06 يونيو 2023, 02:08 مساء
سالم العوكلي

من أهم ما قرأت، أخيراً، في الرواية العربية روايتين ما يجمع بينهما تقوض فكرة الوطن في الجغرافيا والتاريخ والروح، لفنانتين، إحداهما من سوريا والثانية من العراق، تتقصيان ثيمة غامضة طالما كانت شعوراً جمعياً يطبق على منطقة كاملة وهي (الخوف) الذي غدا جزءاً من هويتها، وكلاهما أخلصتا لأخلاقية الرواية الوحيدة حين تكون بحثا واستجوابا لثيمة تدور حولها.

"سقوط حر" للسورية، عبير إسبر، رواية عن الخوف؛ أو بالأحرى عن غنائية الخوف حين يغدو مونولوجاً داخلياً مُطبِقا على تفاصيل الحياة اليومية، الخوف الذي لا يتوقف عن الظهور كمهرج في سيرك يمزج بين الفكاهة والرعب في مركب هزلي وجارح، وكل مرة كان يظهر في سحنة وهيأة جديدة، ليس الخوف المألوف لدينا، والمُعرّف فلسفياً أو سيكولوجياً أو بيولوجياً، لكنه خوف يغدو أحياناً مرحاً من كثرة معاشرته والتعود عليه، مرغوب وحميمي، ومترف أحياناً أخرى. خوف غامض مجهول المصدر تحافظ عليه "ياسمينا" مثلما تحافظ على جواز سفرها أو بطاقة هويتها، والسرد تقنيتها للنبش في ذاكرة هذا الخوف وتتبع سلالته الجينية أو معرفة وقت ميلاده: "ليس لأني أرفض البقاء على قيد الحياة كما اعتقد الجميع، بل لأني أعشق حتى الموت، البقاء على قيد الخوف.". تنصب الرواية محكمة شاملة في الذاكرة، وتمضي في استجواب قاسٍ لكل الوقائع التي أفضت إلى صناعة شخصية "ياسمينا" البطلة المهزومة مسبقاً، التي يزداد جمالها الروائي بقدر ما تزداد وقاحتها في الحياة اليومية. الجميع والأشياء والأحداث ماثلة في قاعة هذه المحكمة، تستدعي الأدلة والقرائن والشهود أمام مرافعة فارهة في محاكمة لا ينقصها سوى القاضي والجريمة. لا أحكام تصل إليها كما تُعبِّر الرواية عن مهنيتها الخاصة، بينما الفكاهة التي تُخرج لسانها أحياناً من قلب الرعب تقترح أن الجريمة في هكذا محاكمة هي الحياة نفسها التي اختارتنا ولم نخترها. الضمير المتحول بين المتكلم الفرد والمخاطب والمتكلم الجمعي، والتغلغل في سيميوطيقيا الذاكرة وتحليل مرسلاتها: المعمار والملابس وتعابير الوجود الصامتة ، تدخل جميعاً بكشّاف ضوئي تلك الزوايا المعتمة في ماض كان يخطط ببراعة لأقدار أرضية لا يمكن مراوغتها أو التحكم فيها:"عندما كنت أحب أبي وأسمح له أن يحبني"، تتكرر هذه الجملة اللازمة مراراً ، وكأنها لحظة التنفس العميق في سرد لاهث لا يجد متسعا للتوقف، والعلاقة المعقدة والمركبة مع الأب تختزلها هذه الجملة التي يقض منطقها الطبيعي دخول جملة "أسمح له"، وهذه الـ (أسمح له)، ستكون مساحة الحرية التي تتحرك فيها ياسمينا في كل حياتها، إنها المسافة الضرورية التي تجعلها على حافة كل علاقة تعيشها لتظل مسيطرة على قدرها وعلى أهبة الانسحاب في أي وقت تشاء، وهي جملة مربكة لكل من تربى كنبتة ظل منزلية في جو عائلي يشبه عائلة "أسامة" الذي سيصفي اللاوعي حسابه معه أكثر من مرة، وتبلغ العلاقة ذروة تعقيدها حين تحقن هذه الجملة باقتراح لنهاية اللعبة عبر جملة أخرى أكثر تعقيدا وهي تخاطب شبح أبيها: "أردتَ أن تموتَ وأردتني أن أكون قاتلتك.". لم تهبني هذه الرواية أي مفاتيح للولوج إلى أنفاقها، واكتفت، وهي تغمزني بعين خبيثة، بأن صدّرت لي كل الخوف الكامن فيها ممزوجا بالمتعة في خليط اختبرته ذات يوم عندما تأخرت بقطيعي في الغابة، وحين غربت الشمس بكيت، ولا أعرف حتى الآن ما إذا كان سبب البكاء الخوف من الليل أم جمال الغروب. وربما لم يكن من باب المصادفة أن تبعث لي الصديقة عبير إسبر مسودة رواية "سقوط حر" قبل نشرها، ثم بعد فترة تبعث لي نسخة إلكترونية من رواية "الأجنبية"، وكأنها تكتشف رفيقة لم تلتقِ بها يوماً.

رواية "الأجنبية" للعراقية عالية ممدوح، وهذا النعت (الأجنبية) سنعرف أنه لقب وجودي عالق بها يضيء مفهوم اللامكان من زاوية أخرى، لكنها، بظن آخر مفارق، رواية عن (الألفة)، ولكن ماذا تعني الألفة هنا؟ سؤال مضمر لكنه يتأهب للبوح بإجابات غير متقنة في هذا الفزع الدائم من فكرة البيت وفكرة الوطن، فاللامكان هو المنفى الفلسفي داخل المنفى الجغرافي، والعراق المُذكّر الذي تكرهه بشفقة وتحبه بقسوة يظهر كلحظة غضب تتحطم فيها الذكريات المُرة كالصحون على بلاط الحنين الممزوج بالمقت، ومن يحق له أن يكره العراق ويقسو عليه غير من يحبه. غير أن كل هذه المشاعر المتضاربة حد الاتساق؛ التي تتحرك داخل آلة خلط بحجم العالم، تختفي هي أيضا تاركة المكان لبطل الرواية، الخوف بجدارة، الذي هو المَقْلع الأصيل لكل تلك المشاعر، حيث يفقد كل شيء أصالته ويغدو مزيفاً، حتى الطغاة الذين يتكاثرون في هذا المكان مثل البعوض مزيفون، يفقدون أصالتهم والكاريزما التي تؤهلهم لهذه المهنة الشاقة، وليس فيهم ما يشبه الطغاة الحقيقيين سوى قدرتهم على إنتاج الخوف بغزارة، فبعد عامين من سقوط الطغاة الكبار الهزليين تكتشف مسخا آخر من مسوخ كافكا: "حشود الطغاة الصغار العاديين البهلوانيين لا يتسمون بخصوصيات وخصال وقامات الطغاة الحقيقيين. لا يتمتعون بقوة السحر اللغوي أو النطق الفصيح أو الكاريزما الماكرة ولا الجنون الحقيقي. طغاتنا أقل من الخزي وأدنى من العار ولا يجوز لنا أن نفقد أعصابنا ونحن ننوي التخلص منهم.". مونولج روائي يتوسع كحريق في قش الحكايات المتناثر في الذاكرة مذ أشعلت عود ثقاب السرد بجملتها الأولى "بيت الطاعة"، لتنفتح البيوت الحميمة أمام فضول الساردة كأمكنة محتملة لممارسة طقوس الخوف بغبطة، وما بين طقوس الخوف وطقوس الطاعة يحفر النص عميقاً في ثيماته الإنسانية، مطيلاً المكوث عند تفاصيل رهن التأمل الروائي، فيحلل كل نظرة أو إيماءة أو ضحكة أو سأم تجيد صنعه البيروقراطية في الإدارات الرطبة، ثم بقدرة تُغبط عليها تدير الألم بحنكة دون أن تتورط في نحيب أو شكوى قروي تاه في مدينة مزدحمة.
الروائية لا تمسح أبعاد ومساحات السرد بحس هندسي، لكنها، بفضول الجيولوجي؛ تحفر قطاعاتها عميقا، وتحاور كل طبقة من طبقات الوعي أو اللاوعي عبر فلسفتها الخاصة التي لا يحكمها سوى الحدس القوي، والذهاب دون حدود في تأويل كل ما هو هامشي وتافه ومزدرَى، وبأصابع ملساء، بلا ملمح أو هوية كم تمرغت في أحبار المنافذ والمطارات دون أن تبوح بسرها، تتلمس صخر الوقائع الصلبة، وبقرون استشعار مكتظة بعيون سرية تتأمل عتمة الأعماق، تحمل العيّنات المنتخبة إلى مختبر حدسها الذكي لتعيث فيها تشريحاً وتقطيراً فتتصاعد أبخرة الخوف الحارة من كل سياق.
تمضي في استجوابها السردي لمتهمي الذاكرة، أو حاضرها الذي تعيشه خارج المكان والزمان، أو مستقبلها الذي لا يمت لها بصلة، وتنصب محكمتها الشاسعة، تستدعي الشهود والأدلة والقرائن ثم ترفع الجلسة دون أن تلقي حُكْماً، مخلصة لإحدى أخلاقيات الفن الروائي حين يترك الأحكام معلقة.

الوتيرة نفسها، والتودد إلى الهامش هو نفسه، حين تتحدث عن الأصدقاء وعن الأهل والبيت القديم، عن الهوية وجواز السفر، عن توحش اللغة الحارنة، أو المرض الجلدي، عن فوبيا الإلكترونيك والعالم الافتراضي، عن الثمالة والعَرَق العراقي، عن الشرطي، وعن النوم الذي يتلوه نوم، عن البيروقراطية الساذجة، وعن الموت بحس رواقي، وعن الأب "المخمور الميت المستوحش"، أو عن البوعزيزي . ثيمات تتصل وتنفصل، تتحرك وكأنها في خلاط يدور فيحيلها إلى مزيج كل مرة يغلب عليه لون أو نكهة، وما يستحق النسيان يلتصق بالحواف أو يختفي تاركا بُواخه يتكثف على زجاج روح شفافة كالهواء. عناوين تظهر بقوة وتختفي، لكن صداها جميعا يبقى في ثيمة الكتاب المركزية (الخوف مستساغاً) الذي يشد كل الوقائع صوبه، مثلما يشد أزر صاحبته ويقف بجانبها كشيطان حارس لا تغفل عينه عنها، كظل لا تخفيه حتى العتمة، كمرآة في حقيبتها الجلدية تتملى فيها ملامحها كلما غامت في لهاثها خلف الهوية المراوغة، ولا يمكن مراودة أي تعريف لهذه الثيمات الشائكة إلا بوضعها في قلب العبث كي تُستفز وتدافع عن نفسها، تتهمها وترافع عنها، تُغبِّشها كي تمسحها، مثلما تنفخ بخار رئتيها على زجاج العدسة، كي ترى أفضل. الرواية التي تفكر وهي تتقدم، أو بمعنى آخر الرواية التي تحقق شرطها الأخلاقي التائق إلى المعرفة، أو شرطها الفني الوحيد، كما يتصوره كونديرا: "أن تقول ما لا يقال بغير الرواية".

ولا تنتمي مغامرة "الأجنبية" إلى أي ذاكرة نألفها في السرد، لأنها رواية، في الأساس، تسعى لتقويض فكرة الألفة حين تكون مطروحةً على طاولة تشريح، ولأنها كمؤلفتها تائهة وبلا هوية، قدر نصها أن يكون أجنبياً في وطن جنسه، نص مجازف تصعب فهرسته في أرشيف المكتبات المنضبطة، ثمل حتى النهاية وخائف حد الهذيان واللعثمة، حتى الأسماء تندس كمفردات عادية في النص وكأنها تختفي من خوف ما، أو كأنها بلا هوية تندس وسط زحام الكلام العادي، مثلما تنفض الغبار عن ألبوم وتُقلب صوره، الشخصيات تأتي وتذهب، بمصادفة أو كما يقترحها هذيان السرد المحبوك عبر مونولج تتزاحم فيه الأصوات دون أن تُحدث ضجيجا، تغمر بمديحها الاحتفالي مَن تحب، أما الجديرون بالهجاء فتُفضِّل أن تُخرجهم سريعاً من مسرح الحدث.