Atwasat

مرثية لمحامٍ آخر للفقراء

محمد عقيلة العمامي الإثنين 05 يونيو 2023, 11:32 صباحا
محمد عقيلة العمامي

أدب الرسائل موضوع شائق، صادق وحقيقي، لأنه في الغالب بعيد عن التكلف، وحميمي. فالمرء يكتب رسالته لمن يحب، بدفء وصدق، فالحبيب دائماً قريب من العقل والقلب. قلة من الكتَّاب الليبيين لهم رسائل معروفة ومنشورة بينهم وبين ذويهم، أو رفاقهم. في تقديري أن رسائل خليفة الفاخري وصادق النيهوم، درر في بلاغتها، رائعة في سخريتها. كتبت عنها أكثر من مرة، مبدياً تأسفي على ضياع نسخ رسائل الفاخري إلى صادق النيهوم، وهي التي كانت في حقيبته قبلما تضيع من أمام مكتب الثقافة العربية في بنغازي. فنحن نملك رسائل النيهوم للفاخري ولا نملك رسائل الفاخري للنيهوم والتي أشار إليها النيهوم في العديد من رسائله.

ونملك أيضاً عدداً من نسخ وأصول رسائل كتبها الفاخري إلى ذويه وأصدقائه، ونشرت أكثر من مرة، وإنني لعلى يقين من أن مثل هذه الرسائل موجودة في أوراق ومستندات العديد من أصدقائنا الكتَّاب الليبيين، منهم من رحل عنا من دون أن تخرج هذه الرسائل إلى النور، ومنهم المتردد في نشرها. إنني أتمنى أن أرى مثل هذه الرسائل التي كتبت بود وبلاغة وصراحة وصدق بين الذين يعون جداً وقع الكلمة على مشاعر صديق يعرفونه جيداً، ويعرفون قدراته على «فك شفرات» ما لا يريدونه أن يصل أيديا غير أيديهم.

دعوني أنقل إليكم، على سبيل المثال، فقرات من رسائل نشرها الكاتب الشاعر والإعلامي المصري عيد عبد الحليم، رئيس تحرير مجلة (أدب ونقد المصرية)، أنقل إليكم فقرات منها وردت في مقالته التي أسماها (في حضرة طه حسين). يقول: «.. وتدلنا الرسائل المتبادلة بين صاحب (دعاء الكروان) ومجايليه وتلاميذه عمق ثقافة الطرفين، وعلى جمال الأسلوب التي كتبت به هذه الرسائل التي تعد وثائق أدبية مهمة... منها الرسائل المتبادلة بينه وبين نجيب بك الهلالي، التي تعد وثائق أدبية..». بسبب أسلوبها السهل الممتنع، الذي أُخذت به، وبعض من رفاقي ممن درسنا معا المرحلة الثانوية، منذ الأسطر الأولى من تحفته الخالده كتاب (الأيام) بأجزائه الثلاثة، إذ يتناول الجزء الأول طفولته ومعاناته، ويحدثنا، في الجزء الثاني، مرحلة دخوله الأزهر وتمرده على مناهجه وشيوخه ونقده الدائم لهم حتى التحاقه بالجامعة الأهلية، والثالث تناول دراسته في الجامعة الأهلية، ثم سفره إلى فرنسا وحصوله على الليسانس والدكتوراة ودبلوم الدراسات العليا ثم عودته إلى مصر وبدء مسيرته كأستاذ في الجامعة. كانت هذه الكتب من مقررات دراستنا الثانوية! ولا أعتقد أنها، ما زالت مقررة حتى الآن.
ولكن لماذا انتقيت هذه الرسالة، من المقالة التي أشرت إليها، وهناك رسالتان أخريان، لقامتين أكثر شهرة، بالنسبة إلينا، إحداهما إلى رائد المسرح المصري توفيق الحكيم، والثانية للأديبة مي زيادة، صاحبة الصالون الأدبي الشهير في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي؟ أقول لكم لأنها أعادتني إلى حادثة ذكرتني بصديق رحل عنا منذ أيام، ولولاه ما كنت أعرف شخصية صاحب الرسالة الأولى، فحق عليّ أن أترحم على هذا الصديق، في هذه الرسالة، لتكون بمثابة رثاء له وامتنان على أيام طيبة جمعتنا ولم تنفصل عروتها حتى من بعد أن أخذتنا الأيام كلا في طريق يختلف عن الآخر، وإن كنا قد اجتمعنا قبيل رحيله بأيام، وتواعدنا على لقاء، ولكنه لم يتحقق لأننا وسدناه ثرى مدينتنا الرائعة بنغازي. إنه الراحل الأستاذ المحامي المثقف مفتاح الهلالي الذي كان يفخر بأنه يشترك مع من كتب إليه الدكتور طه حسين في اسم العائلة، وأيضاً لأنه كان يتطلع إلى أن يكون مثله محامياً للفقراء، وبالفعل لم يترك فرصة لتأكيد هذه الرغبة.

سوف نستهل رسائل الأديب الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، بهذه الرسالة التي يشكو فيها وحدته وحزنه من ابتعاد أقرب الناس إليه، وكثرة كيدهم ومكرهم، ويختتم رسالته ببلاغة المتمكن المتفرد بدقة انتقاء كلماته وعباراته لصديقه محامي الفقراء نجيب بك الهلالي، يقول: «... وأنه لا ينبغي لك أن تمضي في نسياني أو في الإعراض عني إلى أبعد مما مضيت وإن كتاباً منك ولو قصيرا إن وصل إليّ خليق أن يحمل لي بعض الراحة، ويرفه علىّ بعض الشيء، وما أظنك تبخل بذلك على صديق آثرته دائماً بأصفى الود وأنقاه. وأما بعد فإني أهدي إليك تحية يملؤها حب صادق لا تغيره أحداث، ولا تضعفه الخطوب».
وبعد، يتولاك الله أخي مفتاح عمر الهلالي بواسع رحمته ويسكنك فسيح جناته. إنك لم تعلن أنك محام للفقراء، ولكن سيرتك المهنية هي التي أعلنت ذلك، فامض إلى المقام الذي يليق بالأنقياء مثلك.