Atwasat

قضايا وطنية مهمَلة

نور الدين السيد الثلثي الخميس 01 يونيو 2023, 02:05 مساء
نور الدين السيد الثلثي

صراع على السلطة بالسلاح وبإدارة أجنبية، مستمرٌ منذ سنة 2011، صاخبٌ، فجٌّ، خفيٌ تارة، وتحت الأضواء تارةً أخرى. حاضر فيه المال بمختلف أشكال الحضور، سرقةً وعمولاتٍ ورِشى، وغائب فيه الوطن.

اثنا عشر عاما من تبديد المال العام وتعطُّلِ التنمية الاقتصادية والاجتماعية. تحديات وقضايا وطنية كبرى قيدَ التجاهل أو الانتظار، ولا نهاية في الأفق. من تلك القضايا الهجرة غير الشرعية، والوجود العسكري الأجنبي، وارتهان القرار الوطني للمصالح الأجنبية، وانتشار السلاح، وانقسام البلاد، والفساد، والمركزية. قضايا وطنية كبرى لا تمت بصلةٍ إلى تمويل حجِ بعض المواطنين، أو استفتاء حول لون جواز السفر، لكننا نعيش واقعا يتحدى كل مُفترَضٍ ومعقول.

ننظر فيما يلي في اثنتين من قضايانا الوطنية التي تجاهلتها حملات المتنافسين على المال والسلطة، وسقطت من كل حوارٍ لهم حول مستقبل البلاد، هما الهجرة غير الشرعية والوجود العسكري الأجنبي.

مقدِّمة للاستيطان؟
يزخر التاريخ بالهجرات البشرية، إلى مستعمراتٍ أو أراضٍ جديدة، أو هربا من الحروب أو الاضطهاد أو من استعمارٍ استيطاني، أو نقلا قسريا كعبيدٍ للرجل الأبيض، أو بسبب الجفاف، أو لغير ذلك من الأسباب. وفي ليبيا أمثلة تبرز منها هجرةُ بني هلال وبني سليم إلى أفريقيا، وهجرة الليبيين تحت الاحتلال الإيطالي إلى أقطارٍ عربية مجاورة وغير مجاورة، وهجرات داخلية عديدة بسبب الجفاف أو الصراعات القبلية أو الحروب نراها تتكرر حتى أيامنا هذه. لكن هجرة الأفارقة الحالية إلى ليبيا، وعبْرها بحرا إلى أوروبا، تمثل أخطارا كبرى تلقي بظلالها على مستقبل ليبيا كوطن.

ليبيا أمام تحدٍّ كبير باقٍ من دون رؤية أو برنامجٍ مؤسَّسٍ على معطياتٍ موضوعية، وقراءةٍ واعية للواقع الديموغرافي والاقتصادي في منطقتنا ولمصالح الدول الفاعلة غيرِ البعيدة منّا، يحدّد الغايات، وينشد المصلحة الوطنية لا غيرها. لقد اقتصرت «إنجازات» الحكومات المتعاقبة في مجال الهجرة على الاتفاق الذي أبرمته حكومة الوفاق الوطني مع إيطاليا سنة 2017، الذي يقوم حرس الشواطئ الليبية بموجبه بإعادة المهاجرين نحو أوروبا إلى البر الليبي. تهرّبت الحكومة من مصادقة السلطة التشريعية على الاتفاق بأن أسمته «مذكرة تفاهم»، ولم تُلقِ بالا لحكم القضاء الإداري بوقف تنفيذه إلى حين الفصل في موضوع الدعوى القضائية المرفوعة بشأنه، بل باشرت تنفيذه ومدّدته عند انتهاء مدته.

يستمر تدفق المهاجرين، كما يستمر غياب أي حوار وطني أو برامج يطرحها الممسكون بالسلطة والساعون إليها لمواجهة المشكل وتبعاته الخطيرة على مستقبل البلاد ونسيجها الاجتماعي، بل على وجودها كوطنٍ للّيبيين. يفاقم المشكلَ ضعفُ سيطرة الدولة على حدودها، ودعم محتمل من دولٍ أوروبية لخيار التوطين في ليبيا يوحي به برنامج معني بدمج المهاجرين في المجتمع الليبي تديره منظمة أوروبية غير حكومية. يتم ذلك من دون علم الحكومة الليبية، أو لعجزها عن اتخاذ موقف حاسم بشأنه.

التزايد السكاني في الدول المجاورة وعموم دول الساحل، وشحّ مواردها وضيق سبل العيش فيها، والواقع الليبي المتمثل في المساحة الواسعة وقلة عدد السكان ووفرة الموارد الطبيعية، تدفع دفعا نحو الهجرة إليها للعمل أو الإقامة والتوطّن. يضاعف خطورة موضوع الهجرة أن دولا أوروبية ستجد في توطين المهاجرين الأفريقيين في ليبيا الحلّ الأمثل لمواجهة تدفق الهجرة إلى سواحلها. قد تلتقي الضرورات والمصالح من حولنا لتترك البلاد أضعف من أن تستطيع مواجهتها بسياسات فعالة.

هناك حاجة لاعتماد خطة وطنية لتنظيم الهجرة وضبط الحدود، غايتها حماية الوطن وضمان مستقبله وفق منظورٍ يشمل الغلاف العربي والجوار الأفريقي، يأخذ في الاعتبار المعطيات الجغرافية والاقتصادية والسياسية المؤثرة، والعلاقات مع دول الجوار ودول النفوذ. الحاجة إلى النظر في مثل هذه الخطة ليست وليدة مسألة الهجرة غير الشرعية فحسب، بل هي من ضرورات استدامة مفهوم الدولة الليبية المستقلة، بشعبها الصغير وموقعها الجغرافي المتميّز ومواردها الطبيعية الوفيرة.

الوجود العسكري الأجنبي
تَمثل الوجود العسكري الأجنبي في ليبيا بعد استقلالها في وجود قوات بريطانية دخلت البلاد في المرحلة الأخيرة من مراحل الحرب العالمية الثانية؛ وقوةٍ أمريكية في مهبط (الملّاحة) بطرابلس، وقواتٍ فرنسية سيطرت على إقليم فزان، قادمةً من تشاد بالتنسيق مع بريطانيا.

كانت ليبيا عند إعلان استقلالها أفقرَ بلدان أفريقيا، بدخلٍ سنويٍ للفرد بلغ نحو 40 دولارا، وشعبٍ صغير تعداده 961 ألف نسمة العام 1950 (مكتب إحصاء الولايات المتحدة - إحصائية البيانات الدولية) ومعدَّلِ أمّيّةٍ سنة 1950 بلغ ما بين 90 و95% (اليونيسكو- الأمية العالمية في منتصف القرن)، ولم تكن تملك مواردَ طبيعيةً معروفةً تُذكر. أبرمت الحكومة معاهدةً مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة مبكّرة بعد الاستقلال؛ أقامت الدولتان بموجبهما قواعد عسكرية في ليبيا مقابل مساعداتٍ مالية.

لم تكن القواعد الأجنبية أبداً محلّ قبول الليبيين حتى في أيام الفقر، بل كانت المعاهدتان محلّ اعتراضٍ داخل مجلس النواب نفسه. تحوّل عدم القبول إلى رفض تصاعَد بعد حرب السويس سنة 1956 على وجه الخصوص، مما دفع إلى بدء التفاوض مع الدولتين على إنهاء المعاهدتين سنة 1964. كانت المفاوضات بطيئة تنقصها إرادة الحسم، وبقيت القواعد إلى ما بعد ثورة 1969 بأقل من عام، فتمّ جلاء القوات البريطانية والأمريكية سنة 1970، بعد أن كانت القوات الفرنسية قد انسحبت بموجب اتفاقية أُبرمت بين البلديْن سنة 1956.

كان الوجود العسكري الأجنبي على الأرض الليبية مرفوضا تماما، ومن حيث المبدأ، فهو ينتقص من سيادة الدولة على أرضها وأجوائها، ويدفع بالبلاد كطرفٍ في صراعات دولية لا مصلحة لها فيها. أزعم أن هذا الموقف يظل موقف عموم الليبيين تحت كل نظام وظرف، وأن ما نراه على الأرض الليبية اليوم مخالفٌ لمسار البلاد التاريخي منذ استقلالها ولقناعات الشعب الليبي وتطلعاته منذ ذلك الحين.

هناك اليوم وجود عسكري أجنبي لعديد الدول؛ خمسُ دولٍ؟ ست؟ أكثرُ؟ أقل؟ يصعب على الليبي بالمعلومات المتيسرة له أن يسميها جميعا، وعلى وجه التحديد. لم يكن هذا الوجود العسكري الأجنبي على الأرض الليبية موضوع حوارٍ وطني، أو كانت للأطراف المتصدرة للمشهد السياسي مواقفُ معلنةٌ تجاهه. لا الوجود العسكري الأجنبي، ولا اتفاقيات إقامته على الأرض الليبية وشروطها -إن وُجدت- معلَنة، ولا اعتماد السلطة التشريعية -بحالها البائس- كان واردا.

تلكما قضيتان وطنيتان من بين قضايا وطنية عديدة، سبقت الإشارة إلى بعضٍ من عناوينها أعلاه، يجب أن تكون في مقدمة اهتمامات السلطتين التنفيذية والتشريعية والعاملين في الشأن الوطني العام وميادين الإعلام. تلك قضايا تفوق في خطورة عواقب إهمالها ما نشهده من حواراتٍ وسِجالاتٍ في إطار الصراع على السلطة ومظاهر دولة لم يبق منها غير القليل. وفي الأثناء، تستمر فوضى اللا دولة، وتبقى البلاد ساحةً للأجنبي، مهاجراً مستوطنا، أو مسيطرا يقودها في أي اتجاه يريده، وبأيدي ليبيين يخدمونه وينتفعون... إلى حين.