Atwasat

الحكومات الليبية (1949- 1969) (4)

سالم الكبتي الأربعاء 31 مايو 2023, 01:29 مساء
سالم الكبتي

(ما أيسر أن تعارض الأمر الذي تجهله) الإمام محمد عبده.

من الواضح تاريخياً عبر هذا المسار الذي نعرض له أن الأمور في برقة اختلفت على الحالة في طرابلس تلك الأعوام التي شهدت قيام حكومة إجدابيا وحكومة الجمهورية الطرابلسية. أجمع أهل برقة والتفوا معاً حول الطريقة السنوسية وسلموا أمرهم إلى رئيسها وهو إدريس السنوسي، لكن في طرابلس ظل اختلاف الحالة يبرز بشدة لعدة عوامل فرضتها ظروف الواقع.. لقد كان تعدد الزعامات وتباين الاتجاهات هناك وفقاً للمصادر التاريخية هو الذي قاد مباشرة وبعد جهود حثيثة إلى بلورة فكرة الجمهورية وتأسيسها.

قبل قيام الجمهورية كان رمضان شتيوي يدير حكومته في مصراتة على نحو مستقل وربما شاركه في ذلك من بعيد خليفة الزاوي الذي ظل مسؤولاً بطريقة ما في نواحي فزان.. مرزق وزويلة. في مصراتة ظل يتردد القول على الدوام.. حكومة رمضان وقد بسط قبضته على الشؤون في مصراتة وما حولها واستعان ببعض الشخصيات وكانت له أيضاً عدة تقاطعات مع العديد من الشخصيات الأخرى التي لم تشاركه في وجهات نظره وإدارته للشؤون واختلفت معه.

وفي فترة لاحقة سيحدث صراع بين خليفة الزاوي وعبدالجليل سيف النصر في فزان ونشأ عنه أو ربما تواصل عنه امتداد للتحالف التاريخي القديم مع عبد النبي بالخير زعيم ورفلة. حوصر خليفة في مرزق ثم خرج منها بفضل هذا التحالف ولم يعد ثمة وجود له أو علاقة تعود إلى فترة حكومة رمضان الذي حاول مد نفوذه في تلك النواحي بواسطة الزاوي. وقد نعبر عن هذه الحالة أو نفترض أنه صراع بين قوتين أو سلطتين أو حكومتين. كان سيف النصر بدوره يستند إلى ما يشار إليه بأن ثمة دولة سيف النصر، إن صح القول. كان لها بعد دولة أولاد امحمد سلطة وعملة وعلاقات مع فرنسا عن طريق عبدالجليل الكبير. أسرة لها عراقة وامتداد في التاريخ حتى إنها ارتبطت بمصاهرة مع الأسرة العلوية المالكة في المغرب حيث تزوج أحد سلاطينها بإحدى كريمات آل سيف النصر.

إن النفوذ القبلي الشديد والتركيبة الاجتماعية المتعددة تلاحظ بوضوح في هذه الأماكن، فقد ظل التنافس قوياً ولا يرحم أحداً أحياناً، ومع هذا النفوذ الذي تتوزعه القبائل الكبيرة تبدو أمور السيطرة والقيادة في كل الأوقات. وكانت برقة على العكس تماماً فقد هدأت أو هدئت تلك الصراعات القديمة بوجود الطريقة السنوسية وامتدادها وخضوع قبائل برقة في الغالب لتعاليم الطريقة والتقيد بها، ولهذا ظلت هذه القبائل تحترم وتبجل القيادة الواحدة والرجل الواحد من الطريقة ولم يكن ثمة خلاف حول ذلك تماماً.

تكون مجلس الجمهورية الطرابلسية من الأربعة الذين ظلوا رؤساء لها وهم: سليمان الباروني ورمضان السويحلي وعبد النبي بالخير وأحمد المريض. تركيبة اجتماعية وقبلية وجهوية واضحة في هذا الاختيار للحد من الصراعات أو تجاوزها عندما تحدث أو لعلها تكون تجربة تقود إلى الأفضل في وجود العدو الواحد الذي يحاول الانفراد بتلك الزعامات والإضرار بمصالح البلاد. ويلاحظ في المجلس أنه ضم أمازيغيا من جادو وهو الباروني وآخر من مناطق الساحل.. مصراتة، وهو رمضان السويحلي، والثالث من الداخل وهو زعيم قبائل ورفلة والرابع زعيم قبائل ترهونة المتاخمة لهذه المناطق بطريقة أو بأخرى.

وهذه التركيبة الاجتماعية تحتوي على أهم القبائل وكبرياتها في الغرب والوسط الليبي.

من جهة أخرى نشأ عن المجلس مجلس آخر للشورى وقد اختُير الشيخ محمد سوف المحمودي رئيساً له والشيخ يحيى الباروني نائباً. فيما تشكل المجلس بالاختيار من اثنين وعشرين عضواً يمثلون مناطق طرابلس وفزان. هنا أضحت فزان البعيدة جزءاً من الجمهورية، لكنها في الواقع لم تستفد الاستفادة القصوى من أعمالها أو برامجها. كما أنشأت الجمهورية إدارة مالية اختير لرئاستها مختار كعبار.

في الثامن عشر من نوفمبر العام 1918 جرى الإعلان أو البلاغ رقم واحد عن قيام الجمهورية للشعب في تلك المناطق وجاء فيه: (قررت الأمة الطرابلسية تتويج استقلالها بإعلان حكومتها الجمهورية باتفاق آراء علمائها الأجلاء وأشرافها وأعيانها ورؤساء المجاهدين المحترمين الذين اجتمعوا من كل أنحاء البلاد) والمقصود هنا طرابلس وفزان. ووصل هذا البلاغ إلى كل من إيطاليا وبريطانيا وفرنسا وأميركا في محاولة تبغي الحصول على (اعتراف دولي)!.

وفي تعاون آخر مع شخصيات غير ليبية اختارت الجمهورية عبدالرحمن عزام من ضمن مستشاريها. وكان من أهم أعمال حكومة هذه الجمهورية أنها أعلنت قرار تأسيسها إلى الدول الكبرى المذكورة سابقاً وحاولت التوصل مع إيطاليا إلى حل ينقذ البلاد من أزماتها بوجود الاحتلال واعتنت بجيشها وسعت إلى إعداده وتدريبه.

وهنا يسعنا القول عبر هذه المخاضات بأن الليبيين وفقاً لحكومتي إجدابيا والجمهورية الطرابلسية تعلموا أو خبروا فنون السياسة والدبلوماسية والتعامل مع الآخر ولو بطريقة تقليدية بسيطة، وهذا يشكل قيمة يجب النظر إليها وعدم الاستهانة بها أو الإقلال من هاتين التجربتين في دراسة (الفكر السياسي الليبي المعاصر) إن صح التعبير.

إنه مخاض ينبغي دراسته ليس لأن الوطنية أو العاطفة تستدعي ذلك ولكن لأن ما حدث في ذلك التاريخ كان حقيقة واقعة اعترف بها العدو وتعامل معها، وبهذا نلبي حاجة الأجيال الملحة في التعرف على تاريخها وفكرها السياسي الذي كان يمثل أمراً معترفاً به ولا يجب أن نغمط حقه في دراسة التاريخ والوعي به.

ونتيجة لقيام الجمهورية قام الزعماء بتقديم مذكرة إلى الإيطاليين وضعوا فيها عدة مطالب من ضمنها ضرورة الاعتراف بالجمهورية ثم الدخول في مفاوضات مشتركة للصلح بين الطرفين. وهنا طلب الجانب الإيطالي الموجود في طرابلس بقوة الاحتلال مهلة لتأجيل الرد حتى يتم اتصاله بالسلطات المركزية في روما.

وتشير المصادر التاريخية في هذا الموضوع إلى أن المقابلات بين الجانبين تعددت وطال أمدها إلى يوم الحادي والعشرين من إبريل 1919.. تاريخ صلح سواني بنيادم الذي تضمن مبادئ أكدت المساواة أمام القانون لكل من الليبيين والإيطاليين وضمان الحرية الشخصية واحترام حقوق الملكية والسكن والتعليم والاجتماع والصحافة (صدرت اللواء الطرابلسي) والإقامة والانتقال وجعل الخدمة العسكرية اختيارية وتعيين لجنة مشتركة نصفها عرب والنصف الآخر إيطاليون ويهود تقوم بوضع الأنظمة اللازمة لتطبيق الأنظمة التي يجري الاتفاق بشأنها وتبادل الأسرى وتعويض الأهالي عن الخسائر التي تكبدوها ومنح الوطنيين حق شغل الوظائف العسكرية والمدنية العامة.

ونتيجة لهذا الصلح وضع القانون الأساسي لطرابلس المبادئ التي اتفق عليها الطرفان وصدق بناء على ذلك ملك إيطاليا على القانون في الثلاثين من مايو 1919. غير أنه في نهاية المطاف أو من بدايته لم تكن إيطاليا صادقة النية والعزم في التعهدات التي قطعتها والتزمت بها فلجأت ثانية إلى القوة العسكرية واحتلت سرت في أواخر شهر يونيو وترددت في تطبيق القانون الأساسي (الدستور) وسعت لزرع الفتن والأحقاد بين الزعماء. ونجحت في ذلك تماماً.

والواقع أن بعض الأمور تتشابه أو تكاد تتماثل بين الحكومتين في إجدابيا وطرابلس، ففي برقة صبر الأمير إدريس كثيرا ًعلى دسائس الطليان ومناوراتهم ومحاولاتهم عدم التزامهم بالمواثيق والعهود رغم قبوله التفاوض في مراحل ثانية والوصول إلى عقد اتفاقية الرجمة العام 1920 ثم اتفاقية بومريم العام 1921. ونشأ عن هذه المفاوضات والاتفاقات أشياء تحسب لصالح حكومة إجدابيا ومن أهمها إطلاق مجموعات من المبعدين والأسرى في الجزر الإيطالية وقد ظل المأثور الشعبي يردد عن ذلك.. (سيدي إدريس طلاق المحابيس)!

لكنَّ هاتين الحكومتين والتجربتين لم تستمرا. توقفت أولاً في طرابلس ثم في برقة باستيلاء الفاشست على السلطة في روما في ديسمبر 1922. ولم تعد ثمة حكومات محلية أو وطنية إلا عبر سلطات الاحتلال الإيطالي وأحذيته الفاشية وقمصانه السود.. لتزيد من سواد أيام الوطن وظلامه بلا انقطاع.